الله تبارك وتعالى أنزل القرآن ليتدبر الناس آياته، وليتذكر أولو الألباب، ومن تأمل سور القرآن وجد في كل سورة منها لطائف وإشارات تهديه إلى رشد، وترشده إلى هداية، وأنت -أيها المسلم- إذا تلوتَ -مثلاً- سورة الزمر، وأمعنت فيها النظر، وأنعمت فيها الفكر، ترى أن قلبك يتفتح فيها على نداء ندي عطر زكي، تجد فيه نفسك وقد سمت إلى مقام علي، واطمأنت إلى جوار الرب العظيم، ووجدت فيه الصفاء والتكريم.
نداء من الله {يَا عِبَادِيَ } تكرر أربع مرات في هذه السورة،{يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}.
أيها الأحبة: إن هذا النداء {يَا عِبَادِيَ} ليبدو فيه اللطف البالغ، والعناية الكاملة والتشريف، إنها روح تسري في شعاب النفوس، وتفتح المشاعر وتقودها إلى باريها، حتى لا تبتعد عن حظيرته، ولا تخرج من حدود شريعته، ولا تتيه وراء الدعاة الآخرين، وأصوات الضالين والمضللين.
كم شخص اهتزت أعطافه بنسبته إلى رفات جده الماجد، وإلى عظام أصله القويم، وإلى ما مضى في سلسلته النَّسَبية من الشرف والمجد، وكم من فرد اهتز لتقريب رئيسه له، وذكره لاسمه أمام الآخرين، وكم يود البشر أن يتقربوا من ذوي المكانة في المجتمع، لعلمهم أو لجاههم وسلطانهم.
تنظر في هذه المقاييس كلها فتجدها تافهة لا قيمة لها أمام هذا النداء {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) سورة الزمر.
إن الله لم يجعل لأحد على أحد مزية إلا إذا كانت نتيجة لما يبذله من خير الجهود، وما يلتزمه من مستقيم السلوك، وما يتركه من صالح الأثر، والعبودية لله تقتضي العبادة لله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، والعبادة لله ليست هي الشعائر الظاهرة فقط، ولكن عبادة الله يجب أن تكون في قلب المؤمن في كل لحظة من لحظات يقظته، وفي كل فعل يأتيه، أو أثر يتركه، أو إقدام أو إحجام، فعبادة الله إذن هي أن يشعر الإنسان شعوراً صافياً شفافاً أنه مرتبط بالله، وأنه مخلوق لله، أنه يسير في كون الله، وأن البشر الذين يتعامل معهم هم عباد الله مثله، أن الوجود كله يسبح لله {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
لقد دعانا الله بوصفنا عباده، ونَسَبَنا لنفسه، وذكرنا بأكبر نعمة، نعمة الإيمان، ثم وجه إلينا أمره {اتَّقُوا رَبَّكُمْ }، وهذا الأمر على وجيز لفظه يشمل الإنسان من الوقت الذي تثبت فيه مسؤوليته، إلى أن يدخل حفرة قبره.
{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} التقوى هي شعار الإيمان، وشارة الإحسان، وسبيل الطهارة، وصمام الأمان، تقوى الله هي نور الله في باطنك الذي يربطك بربك فتحس في كل لحظة أنك في كنفه، وأنك في رعايته، وأنك تنعم بمرضاته، والتقوى هي التي تحبب لك العبادة، وتشجعك على المضي في سبيل الخير، وتهون عليك ما تلقاه من صولات الباطل، وكيد المعتدين، وتعطيك الثقة، وترفع رأسك، فلا تخضع لأحد، ولا تستكين لمطامع، وتقوى الله هي التي تعصمك من الخطيئة، وتبعدك عن الرذيلة، وتعطيك نوراً يميز بين الحق والباطل، والإثم والصلاح، والتقوى هي التي ترفع عنك الحيرة التي كبلتْ عقولا، وأضاعت جهودا، وألهت المفكرين عن المنافع، وأغرتهم بما لا مطمع لهم فيه، تقوى الله تجيبك عن كل تساؤلاتك في وضوح وعمق، إذ معناها أنك شاعر في لحظة أن وجودك صَدَر عن الله، وأن مرجعك إلى الله، وأن الله لم يمهلك لحظة، بل التقوى أنه في كل لحظة يحوطك الأمر والنهي، والإرشاد والتوجيه، ولم يُسلمك أبدا.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ } التقوى بصفة عامة أن تكون متيقظاً لكل ما يصدر عنك، ولكل ما تنكف عنه وتتركه. هذه اليقظة تدعوك إلى تطبيق شرع الله، وتنفيذ أمره، والانتهاء عما نهاك عنه، وأن تتوقف إن لم تعلم حتى تسأل عن حكم الله، فإذا جاءك أمره، وعرفت حكمه، انقدت له انقياد المحب، لا انقياد المكره، واستسلمت له استسلام المطيع، لا استسلام المضطر، وقد تحمد هذه اليقظة، وقد يلف الشيطان على البصيرة حزاماً مظلماً يمنعها الرؤية، فينقاد الإنسان في عمى إلى تلبية الشهوة، وينسى صلته بربه، فإذا لم يكن من المتقين هزته الخطيئة الأولى إلى قرينتها، وما يزال يقتحم الوحل حتى يألف الإثم والفجور، فيطبع الله على قلبه بعد أن تحجر {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ}، وأما إن كان من المتقين فإنها كالسِّنة الخفيفة للماسك بمقود السير ينزعج لإغفاءاته، ويستقبل للهزة، ويحدق ببصره فيما يستقبله من الطريق، ويطرد عنه عوامل الارتخاء، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}.
أعِد - أيها المسلم- هذا النداء في نفسك {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ }، يصل الله هذا النداء بوعد كريم، وعد من لا يضيق ملكه بشيء، ولا ينقص من ملكه شيء، ولا يعجزه شيء {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}، وتصور الحسنة ما شئت، فالمتفضل بالوعد هو الله، والمنجَز لهم هم عباده المتقون، والحسنة الكبرى هي العافية، وهي الرضا، الحسنة الكبرى هي القلب الذي ذهب عنه الخوف والحزن والكآبة، والشعور بالحاجة لغير الله، وهو معنى ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم (اسألوا الله العافية) -أخرجه ابن أبي شيبة - والمؤمن قد يتعرض للفتنة، وقد تضيق به سبيل الرزق، وقد يجد نفسه مكبلاً محروماً من التمتع بتطبيق شرع الله، فيوقظه ربنا الكريم: إنه لم يضق عليه، وإن أرض الله واسعة، وإن رزقه غير محدود بحدود النظرة البشرية الضيقة{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك، ولكن الأمر المهم هو الصبر، هو قوة النفس على مغالبة الصعاب، الصبر على الطاعة، قال سبحانه آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }(28) سورة الكهف، والصبر على المكاره في سبيل مرضاة الله، والصبر على النقص والخصاصة، والصبر على العمل حتى يصل غايته، والصبر عند لقاء العدو فلا ينهزم للضربة الموجعة، والصبر على مغريات الشيطان وهو النفس:
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتهمِ
ونوع آخر من الصبر هو الاحتمال لما يصيب الإنسان من المصائب، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} سورة البقرة (155-156).
فهذه هي الدعوة الأولى في سورة الزمر، ويُختم الدعاء الرابع بفتح أبواب الأمل والرجاء للمفرطين، فتأملوا في الدعوة الخاتمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر.
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن، وأمِّنا به من الفزع وهول المطلع، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
د. عبد المحسن بن عبد العزيز العسكر - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية