هل سبق لك عزيزي القارئ أن عانيت من ألم ممضٍ أو علة صحية غامضة، أقضت مضجعك الشهور الطوال، وشعرت بالحيرة والضياع بين دهاليز المستشفيات، بحثاً عن تشخيص طبي مقنع أو علاج ناجع؟! إن لم تكن أنت فربما قريباً لك أو صديقاً، وربما تكون أو يكون مصاباً - وأنت لا تعلم - بأحد الاضطرابات النفسية الجسدية.
ولتوضيح بعض مصطلحات هذه المقالة، اسمح لي عزيزي القارئ بأن أبدأ بسرد قصتين حقيقيتين (مع تعديل لبعض التفاصيل حفاظاً على سرية المرضى). فقد زارت المريضة م. عيادة الطب النفسي الجسدي على مضض، بعد إلحاح من ابنتها نتيجة معاناتها من ألم بأسفل الظهر؛ زارت لأجله عشرات العيادات الطبية والشعبية، وأنفقت آلاف الريالات، بحثاً عما يخفف من معاناتها. ورغم أن أشعة الرنين المغناطيسي للظهر أظهرت انزلاقاً غضروفياً محدوداً لكن ذلك بالتأكيد لم يكن ليفسر معاناتها الشديدة التي امتدت لأكثر من سنة، وخضوعها لعشرات الفحوصات والعلاجات بحثاً عن حل لمعاناتها. أما المريض ن. الشاب الثلاثيني فقد كرر منظار المعدة عشر مرات للتأكد من عدم إصابته بقرحة خبيثة في المعدة، كما حصل لوالده الذي توفي بسبب ذلك، عن عمر يناهز السبعين عاماً. ورغم أنه يشعر ببعض الاطمئنان لبعض الوقت، عندما يطمئنه الطبيب على نتيجة المنظار، إلا أن القلق سرعان ما يعاوده؛ فيذهب مرة أخرى لمركز طبي آخر بحثاً عن حل لمعاناته.
ما سبق إيراده يُعد مثالاً لحالات نفسية جسدية عديدة، لا تكاد تخلو منها عيادة طبية. وبالمثال يتضح المقال. أما المريضة م. فهي مصابة بما يسمى اضطراب العرض الجسدي، الذي يُعرّف بحسب الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية بوجود عرض جسدي واحد فأكثر (مثل الألم أو أي أعراض قلبية أو تنفسية أو معدية معوية أو عصبية.. إلخ). وسواء تم تشخيص مسببات هذه الأعراض طبياً أو تعذر ذلك فإن ذلك لا يفسر بحال حجم الكدر النفسي لدى المصاب به، وتدهور إنتاجيته في وظائفه الحياتية المتعددة من جراء ذلك. ويُصاحب هذه الأعراض لمدة لا تقل عن ستة شهور أحد أو كل ما يأتي: إما أفكار مستمرة ومفرطة حول خطورة هذه الأعراض الجسدية، أو قلق ممضٍ حول صحته أو مآل هذه الأعراض، أو استنزاف لوقته وطاقته في تهدئة مخاوفه الصحية، أو البحث عن تشخيص وعلاج لهذه الأعراض.
وأما بالنسبة للمريض ن. فهو مصاب باضطراب قلق الأمراض، وهو مشابه في خصائصه لاضطراب العرض الجسدي، إلا أن المصاب به لا يعاني من عرض جسدي محدد، وإنما هو مهموم بشدة من احتمالية إصابته بمرض خطير، أو يعتقد أنه مصاب به بالفعل، لكن لم ينجح الأطباء في تشخيصه بعد. ومع أن بعض المصابين باضطراب قلق الأمراض يتحولون لزبائن دائمين للعديد من المراكز الطبية الخاصة أو العامة إلا أن البعض الآخر قد يسلك سلوكاً تجنبياً معاكساً؛ فيتجنب زيارة الأطباء بالكلية، حتى لمتابعة وعلاج أمراض مزمنة يعاني منها.
وهناك عوامل كثيرة ترتبط بحصول اضطرابات الجسدنة هذه، منها وجود الحبسة المزاجية (Alexithymia)، وهي عدم القدرة أو صعوبة الوصف للعواطف والانفعالات أو عدم الدراية بالمشاعر الداخلية. وعندما يمر المريض بضغوطات نفسية أو اجتماعية فإنها تتضافر مع عوامل شخصية وبنيوية أخرى لتساهم في نشوء مثل هذه الأمراض النفسية الجسدية. وهذان الاضطرابان شائعان؛ فقد يصاب بأحدهما 10 % من المجتمع حسب دراسات عالمية. وكثيراً ما يصاحب اضطرابات الجسدنة هذه الإصابة ببعض اضطرابات القلق أو الاكتئاب.
ويُعتقد أن معدلات انتشار اضطرابات الجسدنة في السعودية قد تفوق الرقم المذكور آنفاً - وإن كنا نفتقر حالياً لأي إحصائيات محلية دقيقة - وذلك لأسباب متعددة، من أهمها انقلاب الهرم الصحي لدينا. فمع وجود مستشفيات متطورة، تضم بين جنباتها تخصصات طبية بالغة الدقة، إلا أن نظام الرعاية الأولية وطب العائلة ما زال مهمشاً لدينا، وحلقات الوصل بين أضلاع الهرم الصحي شبه مفقودة؛ لذا فعندما يشعر شاب ثلاثيني بآلام عابرة في الصدر، مصاحبة لضغوط عملية أو عائلية، فإنه يلجأ لتحويل نفسه بنفسه لأطباء متعددين ومعالجين شعبيين، يتنقل بينهم على غير هُدى. وقد يذهب هذا المريض لأحد المراكز الطبية الخاصة لعلاج شكوى طبية واحدة، ثم تتدافعه الأيدي بين عيادات المركز ومختبراته المختلفة، ويخرج منه في النهاية بشكاوى طبية متعددة، وبالطبع بعد فراغ جيوبه من الأموال!! وللأسف، يحصل بعض الأطباء العاملين في تلك المراكز الطبية الخاصة على نسبة من قيمة الكشفية عند التحويل للعيادات الأخرى في المركز نفسه، ونسبة من قيمة الفحوصات، وربما الأدوية التي يصرفها للمريض؛ وهذا يشكل تعارضاً في المصالح، وقد يؤثر على قراراتهم الإكلينيكية.
ولعلي أختم هذه المقالة ببعض التوصيات للتعامل مع هذه الاضطرابات النفسية الجسدية. فعلى مستوى التعامل مع الحالات الفردية يُنصح بما يأتي:
- السماح للمريض بتلبس دور المريض (فلا تُنكر معاناته من هذه الأعراض، حتى لو انتفى وجود مسببات خطيرة لها).
- التركيز أكثر على استرداد المريض لوظائفه الحياتية، وليس على زوال الأعراض الجسدية.
- يفضل الاقتصار على طبيب واحد، والأفضل أن يكون طبيب الرعاية الأولية أو طبيب العائلة، وأن يُجدول له زيارات عيادية متكررة، ومتقاربة، مع تجنب إجراء فحوصات وتحاليل إضافية غير مبررة إكلينيكياً. ويمكن اللجوء لمتخصص بالطب النفسي الجسدي لبعض الحالات الصعبة.
- الانخراط في جلسات العلاج الجماعي أو العلاج الفردي النفسي، أو تناول العلاج الدوائي لبعض حالات قلق الأمراض.
- تشخيص وعلاج أي أمراض نفسية أخرى مصاحبة كاضطرابات القلق والاكتئاب.
أما بالنسبة للنظام الصحي فإنني أضم صوتي لكل المطالبين بإصلاح الهرم الصحي لدينا. ويأتي على رأس ذلك توسيع قاعدة الهرم الصحي بدعم برامج الرعاية الأولية وطب العائلة على كل المستويات، بما في ذلك تخصيص بعض كليات الطب لخدمة هذا الغرض، وكذلك تكثيف أعداد البرامج التدريبية المختصرة بإشراف الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، لتدريس مناهج مختصة بهذا الأمر. والهدف في النهاية هو تخريج كفاءات طبية وطنية بأعداد كافية، لخدمة مناطق المملكة المترامية الأطراف، ولتكون خط الصحة الأول الذي يبدأ منه أي مريض وينتهي إليه. فمن مركز الرعاية الأولية تبدأ الوقاية من الأمراض، وعلاج الأمراض الشائعة، وهو المناط به التحويل المؤقت للمريض للرعاية الصحية الثانوية والثالثية، وعنده حلقة الوصل لهذه الاستشارات كافة. وفوائد ذلك لا تحصى؛ فستقلّ معدلات وحِدّة الأمراض العلاجية المنشأ (Iatrogenic illnesses)، كما ستقل شهور الانتظار للحصول على موعد في عيادة تخصصية. وفي المجمل، ستقل التكلفة الصحية والنفسية والاجتماعية والمادية بشكل عام.
والله من وراء القصد.
استشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي - أستاذ مساعد - كلية الطب - جامعة الملك سعود