لا يدري لماذا تأخر ابنه؟ .. أخرج الجوال من جيبه، عدّ النقود التي كسبها هذا اليوم، والشمس المحجوبة مالت ليرى طرفها الأيسر، والانتشاء والفرح تراقصا على جبينه المتعرق، وصورة المرأة هيمنت على المكان، تمتم رافعا يده بأن يُرزق كل يوم بهذا الصنف من النساء المرفهات. ظلّله الجسر وحماه من شواظ الشمس، وجعله بعيدا عن عيون جيرانه الباعة الذين تحصي عيونهم عدد زبائنه كل يوم، بل جعلت دماغه يستريح من نزاعاتهم وألسنتهم المقذعة.
أمسك بطشت الماء المركون بجانب كراتين الملابس الجديدة، فالبلاط استجدى بقطرات الماء الباردة لتخفف من اشتعال الحرارة التي يصبها السقف الإسمنتي وعوادم السيارات من مؤخراتها، لكنه أصبح متمرسا على سماع أصواتها وعوائها عندما يكبح سائقوها سرعتها، كان يتخيل الجسر سيسقط على رأسه الملفوف بالغترة البيضاء.
كفه غرفت الماء ونثرته على البلاط المحيط بالبسطة، ونظراته تدلت وأطلت على جيب صدره الذي امتلأ وافتر عن سعادة قصوى، برودة شعت من البلاط الأسود، فسرت في المكان المظلل بجانبيه على البيوت المتواضعة والفارهة، والسيارات القليلة تمر من الجانبين، وتنثر عوادمها السوداء.
عاد إلى مكانه واستند على الجدار، وبدأ يعد الأوراق ويقبل كل ورقة، باع ثلث «البسطة» هذا اليوم، فقرر عدم إطالة الجلوس حتى يصدح المؤذنون بأذان المغرب، فهو على فرن الاشتعال منذ جاءت المرأة وأوقدت النار في حواسه، انتظر مجيء ابنه ليرجعا إلى البيت القريب في الحي المجاور، رفع يديه بالدعاء للمسئولين الذي بنوا الجسر حتى لا تتلاصق السيارات الكثيرة المتنقلة بين الهفوف والقرى الشمالية والشرقية.
تذكر كف المرأة التي حيرته بشرائها الباعث إلى الدهشة، حدّث نفسَه «لماذا اشترت مني وأنا من الحي الفقير والذي ينظرون إليه بأن أخلاق هذا الحي رديئة وهم الذين فرحوا بإنشاء الجسر المانع من أن تنتقل عدوى البيوت البائسة إليهم؟!» تذكّر كيف كان العطر يشع من صدرها ويملأ المكان، كانت ترمق ولده الوحيد من بين نقابها، والذي أصبح خداه كالتفاح الأحمر من لهيب الجوّ، لم يصدّق أنها ستشتري ثلث بضاعته، وحينما أبرزت إليه الأوراق النقدية اللامعة لم تقبل بأخذ المتبقي، بل طلبت أن يحمل ولده الصغير الملابس معها.
ترى .. «هل كانت بضاعتي بهذا الجمال حتى تجذب هذه المرأة الغنيّة لشراء ثلث بضاعته المحتوية على قطع نسائية؟ بضاعتي لم تكن من النوع الرديء، بل كانت هي بجودة سوق السويق إلا أن الإيجار يرفع من سعر البضاعة!»
القلق وسم جلده، ولكن حينما تذكّر أن ابنه ذهب إلى الحي المرفه زال قلقه، فالوضع هناك آمن، وليس كحيّهم الذي تكمن فيه الأفاعي في كل شبر.. حقيبة الكتب مستندة على الجدار، الريح الخفيفة قلبت صفحات كتاب لغتي، عيناه توغلتا بين البيوت ذات التهويات الواسعة لرؤية ابنه الوحيد الذي يخاف عليه من خروجه إلى شارع بيتهم، لذلك كان يأتي به معه إلى السوق كل يوم.
«لا أريد لابني أن يصبح ثمرة مشابهة لي، لا أريد له حياة التنقل في الأسواق الشعبية والتناوش والصراع مع المرضى والمشاكسين، وأن تستمر الشمس في جلدها لي كل يوم، آه لو أني اجتهدت لأصبحتُ من سكان الحي المرفهين، وتزوجت امرأة جامعية يفوح المسك من جسمها، وتولت أمر ابنها ولما خفت عليه من شياطين حينا الذين يسترقون الأجساد الناعمة، لكن ما باليد حيلة فأبي كان يجرني كل عصر إلى الأسواق الشعبية لمساعدته في تحميل الكراتين، وأعود بعدها والظلام ينتشر بين جدران حيّنا، فنصلي ثم أتناول العشاء وتغفو عيناي، والكتب والدفاتر لم تتحرر من حزامها».
وقف على قدميه قرب الكراتين الموضوعة تحت الجدار، سيلوي يده إذا حضر، سيعاقبه، لا يعلم هو أن ابنه الوحيد الذي أتي بشق الأنفس وكاد أن يتزوج على أمه، أخذ يحمل الكراتين إلى حوض سيارته، وأصوات السيارات السريعة تزداد شراسة، تذكّر عطرها فجأة، ذهبت وتركت أنفاسها الناعمة تدوخه، تركت بعد أن تسرب العطر في الجدار الإسمنتي، أصبح على موقد الانتظار، اختلطت مشاعر القلق والرغبة الجامحة في داخله، اشتاق إلى زوجته، سيجعل السرير يرقص ويتغنج، لاح ابنه، فابتسم، هدأ ضجيجه، لكنه حينما لامست قدماه البلاط العطشان، وجد عطرها تفوح من أنفاسه!
- أحمد العليو