- التوازن أن تتعادل وتتساوى بكيفيات / كميات لا يطغى فيها جانب على جانب، فتتجاوز الارتباك أو الخلل الذي يمكن أن يصيب الدور أو المجال الذي تقوم فيه أو الذي تتواجد فيه وليس ذلك وحسب بل وتترابط تلك الأدوار / المجالات، فيجعلك تعيش حياتك بشكل منسجم ومتناغم.
وموضوع التوازن موضوع متشعب وذو امتدادات كثيرة لكن حسبي من ذلك أني سأشير إلى ثلاثة توازنات:
الأول: التوازن في الداخل والخارج منك وإليك معرفياً وثقافياً، ذلك أنه من المهم ونحن في تجربتنا الحياتية التي نعيشها أن ندرك أن النعيم المقيم هو في استمرارية التعلم والاستزادة وعدم التوقف عند مرحلة تعليم معينة، ولا سيما مع كثرة الوسائل التي يمكن أن تشبع بها قيمة التعلم، لذلك نجد الحقيقة القرآنية جعلتنا في خيارين لا ثالث لها قال المولى: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)، (37) سورة المدثر، فأنت إما أن تتقدم بالتعلم والعلم والتطور والتغير، أو أنت بلا شك ستكون محسوباً من المتأخرين.
إذن نحن ننوي أن نزيد طرائق التعلم لدينا كمدخلات ثم لا بد أن نقوم بعد فترة من الزمن بإجراء توازن بعمل مخرجات لما تم تعلّمه، ويمكن أن نشبه ذلك بعمليتي الزفير والشهيق اللتين عندما تتم بعمليتيها يكون لديك توازن في عملية التنفس، وقل ذات الشيء في عمليات المعرفة الإِنسانية والتثاقف، حيث إنك تأخذ ثم تعطي فتدخل في طاقتين هما من أروع الطاقات الأولى طاقة العلم والثانية طاقة العطاء.
الثاني: التوازن بين روحانية الروح ومادية الجسد وهنا ثمة سؤال: هل نحن كائنات روحية أم مادية؟ وليس بخاف على أحد أن الإِنسان كائن فريد وليس كائناً مادياً، وإن جنحت بعض الفلسفات فردَّت الإِنسان إلى عناصر مادية / طبيعية كما هو في الماركسية. وحيث طغى الفكر المادي على كثير من المجتمعات ولسنا نحن عنهم ببعيد في مجتمعاتنا العربية، فتم الابتعاد عن الروح والاهتمام بها وغاب عنا إدراك أن هناك ما يسمى روحاً خلاقة لها حقوق وواجبات، فأصبحنا نقاد في مجريات أحداثنا اليومية من خلال مجموعة من القيم المادية التي تجعلنا متناسين الجانب الروحي / الخلّاق فينا ولذلك صرنا مصابين بخلل توازنيّ كبير.. وها هو الشاعر الإنجليزي والمفكر ماثيو أرنولد يوجه نقده لقيم المجتمع قائلا: ما جدوى أن ينقلك قطار بسرعة من مدينة قبيحة إلى أخرى لا تقل قبحاً. ولندخل في إحدى العلاقات القرابية لنقرب الصورة أكثر كعلاقة التراحم بين الخال وأبناء أخته مثلا، فإنك تجدها في بعض الأسر شبه منقطعة وما كان ذلك إلا للانغماس الشديد في الماديات وتوقف / انقطاع الروحانيات، وقد قيل إن (الخال والد). وطبعا هذا أوصلنا إلى مفهوم الاغتراب الذي تحدث عنه علماء الاجتماع الذي هو عند ماركس أن يترك الإِنسان جوهره ويذوب فيما هو ماديَّ. وقد قال المفكر العظيم عبد الوهاب المسيري: عندي إيمان بالإِنسان على أنه كائن مركب لا يمكن رده لقوانين المادة البسيطة.
الثالث: التوازن بين مفهومي الكمال والاكتمال، فإن أقسى ما يمكن أن تعامل به نفسك والآخرين أن تنشد الكمال في كل التفاصيل ولا بد أن نفرق بين الكمال كطريق تسلكه وتسير فيه وبين الكمال كغاية تنشدها، فإنَّ لم تتحصل على الكمال في أعمالك تنقلب عليك نفسك بحسرات وآلام وجلد وتأنيب.
وغني عن القول إن كمال الشيء هو تمامه ولأننا إن تمسكنا بفكرة تمام أعمالنا بشكل دقيق جدا فإنَّ ذلك سيكون معوقاً أساسيا لانطلاقتنا وسير أعمالنا. إن التمسك بفكرة التمام / الكمال تخرجك ولا بد عن التوازن، فكن في الاكتمالات تسير وإياك من حصر أعمالك على فكرة الكمال فقط. وخذوا على سبيل المثال راكب الدراجة الذي يملك مهارة التوازن فيبقى في الوسط لا ينحرف يميناً ولا شمالا، وهكذا أنت في كل شؤونك كن كراكب الدراجة في الوسط تكون فيه / عليه تسير غالب أوقاتك. ثم إننا نمتلك في تجربتنا الحياتية التي نعيشها ثلاثية الفكر والمشاعر والجسد، والكثير من الأشياء والأشخاص التي نحب أن نتوازن معها وتتوازن معنا، ثم إن من الجمال المنبثق عن الوعي بالتوازن أن وجودها في حياتنا لا يتحقق إلا إذا قمنا بتفعيل قيمة التنظيم حتى كأنه غلاف جوي يحيط بك يساعدك وبشكل مباشر بالقدرة على التوازن.
إن التوازن خيار ذاتي يؤثر بشكل وبآخر في كل مجالاتنا العلمية والعملية والأسرية والصحية والمالية والنفسية والجسدية، ومن كان لديه توازن فإنَّ المطلوب بعد ذلك العمل على استدامته.
وكلما كان لدينا توازن كلما ارتبط ذلك بمشاعرنا فتتكون لدينا المشاعر المبتهجة المنتعشة، وإذا وصلنا إلى هذه المرحلة استطعنا تطبيق فكرة (إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً)... إن من لم يكن أغلب أوقاته في التوازن فإنه يفقد أشياء كثر.