د. عبدالرحمن بن حمد الحميضي
رغم امتلاك ألمانيا لواحد من أقوى اقتصاديات العالم، فإن غالبية جامعاتها دائمة الشكوى من ضعف التمويل، علاوة على مشكلة أكبر تتمثل في عدم قدرة هذه الجامعات على التخطيط المستقبلي، بسبب ارتباط حجم الميزانيات المخصصة لكل جامعة، بقرارات الحكومة الاتحادية، التي تتغير كل أربع سنوات، تبعاً لنتائج لانتخابات النيابية، وقرارات حكومة الولاية التي تقع فيها الجامعة، وهي متغيرات تعرقل قيام الجامعات بمشروعات ضخمة، خوفاً من نقص التمويل، على عكس مراكز الأبحاث المستقلة عن الجامعات، والتي تحصل على تمويل ضخم، في إطار خطط متوسطة الأجل، بل وطويلة الأجل أحياناً.
وفي مقابل ضعف التمويل نسبياً، فإن الدور المناط بالجامعة يتزايد باستمرار، والذي لم يعد يقتصر على توفير التعليم الأكاديمي الراقي للدارسين، وممارسة البحث العلمي، بل هناك دعوات متزايدة لقيام الجامعات بدور في المجتمع، من خلال توفير التعليم عن بعد، والتعلم مدى الحياة، وتضييق الفجوة بين الوسط الأكاديمي، وبين المواطنين من مختلف الفئات، في إطار (مجتمع المعرفة)، وفوق ذلك فهناك الالتزامات الخارجية، من خلال إقامة علاقات شراكة مع جامعات العالم، وما يعنيه ذلك من تعزيز التبادل بين أعضاء هيئة التدريس، وبين الطلاب، وكذلك تنظيم المؤتمرات العلمية، وغير ذلك من النتائج المترتبة على العولمة، التي جعلت المنافسة لا تقتصر على جامعات كل دولة على حدة، بل أصبح التنافس مع مختلف جامعات العالم.
وجدت الجامعات الألمانية ضالتها فيما يعرف باسم (مصادر التمويل الثالثة)، باعتبار أن الميزانية السنوية للجامعة التي تقررها الحكومة، هي مصادر التمويل الأولى، وتمويل الوزارة المختصة هي المصادر الثانية. وتعني المصادر الثالثة أي أموال تحصل عليها الجامعة، خارج إطار الميزانية المقررة، سواء كانت مصادرها من جهات حكومية غير الوزارة المختصة، أو مؤسسات دعم البحث العلمي، التي تحصل على ميزانياتها من الحكومة، لكنها تتمتع باستقلالية كبيرة، إضافة إلى الأموال التي تقدمها الشركات الصناعية، مثل فولكسفاجن لصناعة السيارات، والاتحاد الأوروبي، بل وحتى وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاجون)، التي تمول أبحاثاً في الجامعات الألمانية، تعتقد أنها يمكن أن تفيد الصناعات العسكرية الأمريكية.
وقد أدت هذه الحاجة المتزايدة من الجامعات إلى مصادر تمويل إضافية، إلى شكوى بعض مديري الجامعات من شعورهم بأنهم يقضون غالبية ساعات العمل في التواصل مع الشركات والمؤسسات المانحة، بحيث أصبحوا لا يختلفون كثيرا عن مديري الشركاء التجارية، الذين لا يرون سوى الأرقام والميزانيات، واضطرارهم إلى نقل صلاحيات الاهتمام بالمستوى الأكاديمي والبحثي إلى نوابهم، ولم يعد سراً أن اختيار مديري الجامعات أصبح في السنوات الأخيرة يراعي قدرة المرشح على جلب الأموال.
ولم يقتصر الأمر على مديري الجامعات، فقد أصبح أساتذة الجامعات أيضاً ناشطين في مجال جلب أموال إضافية لجامعاتهم، وقد توصلت دائرة الإحصاءات الاتحادية إلى أن متوسط ما يجلبه أستاذ الجامعة من أموال إضافية إلى ميزانية الجامعة، يبلغ 232 ألف يورو، وأن أكثر الأستاذة نجاحاً في هذا المجال، هم أعضاء هيئة التدريس في جامعة آخن التقنية، حيث بلغ متوسط ما يجلبه أستاذ الجامعة حوالي 717 ألف يورو، أي حوالي ثلاثة أضعاف ما يجنيه نظراؤهم من بقية الجامعات.
وأوضحت الإحصائيات أيضاً أن تخصصات علم الرياضيات والعلوم الطبيعية تحصل وحدها على 18.7 في المائة من إجمالي الأموال التي يسهم بها القطاع الخاص في تمويل الجامعات، في حين تحصل التخصصات الاجتماعية على 7.1 في المائة، مقابل 4.3 في المائة للتخصصات المتعلقة بالفنون.
ويشير المراقبون إلى أن حصول الجامعات على استقلاليتها، يسهم في تنامي قناعة لدى مسؤولي الحكومات، بضرورة أن تقترن هذه الحقوق المتنامية التي تحصل عليها الجامعات، بالاعتماد على النفس بدرجة متزايدة، ولكن الجامعات تعترض على هذا المنطق، معتبرة أن نقص الأموال يجعل الاستقلالية منقوصة، حيث تعجز إدارة الجامعات في ظل هذه الظروف، عن استقطاب أفضل العقول للارتقاء بمستوياتها، والقدرة على المنافسة.
ويدق مسؤولون جامعيون أجراس الخطر، من عواقب هذه السياسة، في ظل ما تعانيه ألمانيا من تحديات ديموغرافية ناجمة عن تراجع أعداد المواليد، وقلة نسبة الملتحقين بالجامعة من خريجي التعليم الثانوي، حيث تبلغ نسبتهم 25 في المائة فقط، في حين أن متوسط هذه النسبة في دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا 38 في المائة، علاوة على أن نمو الاقتصاد الألماني بنسبة 1.5 في المائة، يحتاج إلى أكثر من مليوني موظف مؤهل، نصفهم من الأكاديميين.
وجدير بالذكر أن ألمانيا تنفق 1.1 في المائة فقط من إجمالي الناتج القومي على التعليم العالي، في حين يبلغ متوسط هذه النسبة في بقية دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا 1.5 في المائة، علماً بأن ما تنفقه الحكومة الألمانية لا يتعدى 0.9 في المائة فقط من إجمالي الناتج القومي، والنسبة الباقية وهي 0.2 في المائة مصدرها القطاع الخاص.
وتوصلت دراسة حديثة إلى أن الميزانيات التي توفرها الحكومة للتعليم العالي شهدت خلال الفترة من 1995 - 2008م، ارتفاعاً بنسبة 6 في المائة فقط، وهو ما يعتبره المراقبون في الواقع تراجعاً، لأنها نسبة لا تساوي معدلات التضخم، وفي المقابل نجد أن مصادر التمويل الثالثة ارتفعت في نفس الفترة من 11 إلى 20 في المائة، مما يجعل المراقبين يحذرون من هذا التوجه، الذي يجعل الجامعات أكثر اعتماداً على مصادر خارجية، واحتمال عدم قدرتها على القيام بمهامها من خلال ميزانياتها الرسمية فقط.
وينبه الخبراء الألمان إلى أن الاستثمارات الحكومية في التعليم والبحث العلمي يعود على الدولة بمكاسب مادية أيضاً، فخريج الجامعة يضخ في خزانة الدولة ما يعادل 200 ألف يورو، فائضاً عن تكاليف تعليمه في مختلف المراحل الدراسية، ويحذرون من أن الفجوة الناجمة عن نقص اليد العاملة المؤهلة أكاديمياً، سوف تتسبب حتى عام 2020م في تراجع الدخل القومي الألماني بمعدل 1200 مليار يورو، إذا لم يتم تعديل المسار الحالي.
ويشدد الخبراء على ضرورة العمل على تشجيع أبناء الطبقات الاجتماعية الأقل تعليمياً، على الالتحاق بالدراسة الجامعية، من خلال تقديم المنح الدراسية لهم، لأن الوالدين غالباً ما يرفضون مواصلة الإنفاق على أبنائهم في المرحلة الجامعية، خوفاً من تزايد الأعباء المادية عليهم، علاوة على أهمية اجتذاب الشباب من بقية دول العالم، للدراسة والمعيشة في ألمانيا، لسد العجز المتوقع في اليد العامل المؤهلة.
ولعل هذه الضغوط هي التي جعلت الحكومة الاتحادية، تسعى لتعديل المادة (91 أ) من الدستور الألماني، والتي تنص على أن شئون التعليم من صلاحيات الولايات، وأن ضخ الحكومة الاتحادية أموالاً إضافية في الجامعات، لابد أن يكون مرتبطاً بأمر يهم الدولة ككل، ولا يقتصر على الولاية، والشرط الآخر هو موافقة جميع الولايات الست عشرة على ذلك.
وتسعى الدولة لتشجيع القطاع الخاص على ضخ الأموال في الجامعات، من خلال حصول الشركات على إعفاء ضريبي، بنفس قيمة المبالغ التي تقدمها للجامعات، ولكن الانتقادات لم تهدأ ضد الحكومة الاتحادية، التي أعلنت أثناء الحملات الانتخابية عن عزمها على إلغاء الرسوم الدراسية في الجامعات، في حالة فوزها، وهو الأمر الذي تسبب في حرمان الجامعات من ملايين كثيرة، كانت تسد به العجز في ميزانياتها.
وفي ظل جهود الدولة على تشجيع الطلاب على الالتحاق بالجامعة، والتي جاءت بثمارها، وجدت الجامعات أن أزمتها المادية تتفاقم، بسبب الأعداد المتزايدة من الطلاب، فكثفت من جهودها للحصول على الأموال الإضافية، لكن هذا الأمر ينضوي على مخاطرة، لأسباب متعددة، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- تكون هذه الأموال مرهونة بمشروعات بحثية محددة، ولا يجوز استخدامها في أغراض أخرى، مثل تعويض النقص في الميزانية الأساسية للجامعة.
- أي أموال إضافية تحصل عليها الجامعة، تحتاج إلى نفقات إدارية وتجهيزات وقاعات، ترفض الجهات الممولة دفعها، باعتبارها من مرافق الجامعة، الأمر الذي يعني فعلياً أن مصادر التمويل الثالثة، تتسبب في نفقات إضافية للجامعة.
- غالباً ما تبدأ المشروعات البحثية بتمويل خارجي، وبعد انتهاء هذا التمويل الخارجي، تكون الجامعة مضطرة في كثير من الحالات إلى تمويلها من ميزانيتها الأساسية، بعد أن أصبحت هذه المشروعات أحد أنشطة الجامعة، ويصعب حينئذ وقفها، خاصة إذا حققت نتائج جيدة.
- لا تتوقف الاتهامات، بأن الطرف الذي يمول الجامعة، يمارس تأثيراً بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال اختيار المجالات التي يرغب في تمويل الأبحاث فيها.
- يدرك أستاذ الجامعة أن هناك فرقاً بين أن تكون دوافعه لإجراء بحث علمي نابعة من اهتماماته الأكاديمية، وبين أن يكون اختياره لمجال البحث، نابعاً من معرفته أن هناك من هو مستعد لتمويل هذا البحث بالذات، وتكون المحصلة النهائية أن تحدد أطراف من خارج الجامعة، توجهات الأبحاث العلمية داخلها.
وتجدر الإشارة إلى أنه توجد في ألمانيا مؤسسة عملاقة لتمويل البحث العلمي، يشار إليها بالحروف (DFG)، والتي تسهم في تمويل الجامعات بمبلغ 2.5 مليار يورو سنوياً، وقد أعربت مؤخراً عن خوفها من عواقب اعتماد الجامعات على هذه الأموال التي تقدمها لها، وكأنها أصبحت جزءاً من ميزانياتها الأساسية، وهو الأمر الذي يضطر المسؤولين عن المؤسسة، إلى الحد من أنشطتها الأخرى، خاصة بعد أن بلغ عدد المشروعات البحثية التي تمولها في الجامعات الألمانية أكثر من 3900 مشروع.
وطالب أساتذة جامعيون الحكومة الألمانية الاتحادية بمراعاة تأثير عملية بولونيا، الهادفة إلى توحيد أنظمة التعليم العالي في دول الاتحاد الأوروبي، والتي تسببت في نفقات إدارية باهظة، لإعادة هيكلة الجامعات الألمانية، وهي العملية التي لم تنته كليا حتى الآن، بل إن هناك جامعات تراجعت عنها من جديد، وهو ما يعني تضاعف النفقات الإدارية، على حساب الهدف الرئيس من الجامعة وهو إعداد جيل مؤهل أكاديمياً، والمشاركة في الأبحاث العلمية.
وحذر خبراء التعليم في ألمانيا من التوجه الجديد، الذي يربط بين ما تحصل عليه الجامعة من ميزانية حكومية، بمدى قدرتها على جلب أموال إضافية، واعتبروا أن ذلك مؤشر يدعو للقلق، لأنه يتبع مبادئ السوق والتجارة، على عكس المبادرات الإيجابية، التي تخصص مكافآت مالية سخية، لكل جامعة تحقق إنجازات علمية رائدة، وتوفر لطلابها مناخاً مثالياً للتعليم الأكاديمي، مثل مبادرة الامتياز، معربين عن أسفهم من انتهائها في هذا العام.
وأجمعت الدراسات العديدة في قطاع التعليم العالي على أهمية استمرار مصادر التمويل الإضافية، بشرط ألا يؤدي توفر هذه الأموال إلى تراجع الحكومة عن مسؤوليتها في ضخ الميزانيات الأساسية الكافية لاستمرار عمل الجامعة، حتى ولو لم تحصل على مصادر تمويل ثالثة.
ختاماً:
إن شكوى الجامعات الألمانية لا تعني بأي حال عجز أي منها عن القيام بمهامها على أكمل وجه في إطار ميزانياتها الأساسية التي توفرها لها الدولة، لكنها تسعى إلى الارتقاء بعملها، والقيام بكل ما يمكنها من المنافسة محلياً وعالمياً، علماً أن الشركات الخاصة توفر ملايين اليوروات لوجود قناعة لديها بضرورة إسهامها في هذا القطاع الذي يعود تفوقه العالمي عليها بالخير، من خلال نتائج الأبحاث العلمية، التي تستخدمها في الارتقاء بمنتجاتها، فشركة واحدة مثل بورينجر الدوائية مثلاً، تبرعت لجامعة ما ينتز القريبة من مقرها بمبلغ مائة مليون يورو، موزعة على عشر سنوات، وهكذا تفعل كل الشركات العملاقة، وهذا التعاون الوثيق بين الجامعات والقطاع الصناعي، يحقق فوائد تفوق بكثير أي سلبيات يشار إليها، لأن أنظمة الجامعات والدولة توفر الكثير من الضمانات لعدم خضوع الجامعة لأي ضغوط محتملة من الجهات المانحة.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن الجامعات الألمانية تلتزم دوما بترشيد النفقات، ومهما كان لديها من ملايين اليوروات، فإنها ملتزمة بالحفاظ على كل سنت، لأن هناك جهات رقابية صارمة، لا تقبل أن يمثل استقلال الجامعات عائقاً أمام خضوعها لمراجعة حساباتها، لأن كل الأموال، حتى التي استطاع مدير الجامعة أو الأستاذ الجامعة الحصول عليها، لا تصبح ملكاً له، ولذلك فإنه لا يستطيع الإنفاق منها، إلا تبعاً للأنظمة. ولعلّ الجامعات السعودية تستفيد من التجربة الألمانية في تعزيز مصادر تمويلها.