ما أصاب لحية قناع الملك توت عنخ آمون في المتحف المصري بالقاهرة، جرّاء تعامل غير صائب معها بعد انفصالها، وما ترتب عليه من تشويه في محاولة لإعادة تثبيتها وإزالة ما سال من مادة اللصق، أثار الحاجة الملحة إلى وضع ميثاق عربي للترميم، يضع قواعد ممارسة المهنة، ومعايير أخلاقية لمن يمتهنها.
وقد عُثر على القناع المذكور ضمن محتويات مقبرة الملك توت عنخ آمون, أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة لمصر القديمة (1334 إلى 1325 ق.م)، على يد الأثري البريطاني هوارد كارتر في نوفمبر عام 1922م.. ويُذكر أن القناع كان في حالة من التلف أثناء العثور عليه، كما أن لحيته قد فُصلت عن الوجه خلال عمليات نزع القناع من المومياء، وأُعيد تركيبها على يد الكيميائي البريطاني ألفريد لوكاس, الذي قام بترميم مجموعة المقبرة، كما فصلت بعد ذلك وأُعيد تركيبها عام 1946م.. ويُعدُّ القناع من أجمل وأثمن ما عُثر عليه من الآثار المصرية القديمة, سواء في قيمته الفنية، أو التقنية، أو المادية، ويصل ارتفاعه إلى نحو 45 سم، وهو مصنوع من ألواح مطروقة من الذهب عالي النقاء، ومطعَّم بحجر شبه كريم من عجينة من الزجاج الملون، والعيون مطعَّمة بحجري الأوبسيديوم والكوارتز، ويزن ما يزيد على 10 كيلوجرامات، تزيّنه مجموعة من النقوش الهيروغليفية وبخاصة في خلفيته.
وبحدوث هذا الخطأ الترميمي، والذي علَّقت عليه صحيفة التايمز البريطانية بتاريخ 23 يناير 2015م, تحت عنوان «كوميديا ترميم لحية توت»: إن كنزاً حضارياً لا يُقدر بثمن تعرَّض لتلف لا يمكن إصلاحه من قبل متحف القاهرة، صارت الواقعة حديث المواقع الاجتماعية، وموضوعاً شهياً للصحف العالمية، والفضائيات التلفزيونية هنا وهناك، وأصبح المتخصص وغير المتخصص يدلي بدلوه في موضوع يتعلق بإرث حضاري فريد.. وبعيداً عن طريقة التعامل مع مشكلة تثبيت لحية الملك توت، وإدارة الحدث، وحجم الخطأ أو كيفية تداركه، نجد أنفسنا أمام قضية أعمق تتصل بالتعامل مع التراث الأثري ككل, وليس أمام قطعة فريدة من نوعها كقناع الملك توت على أهميتها وقيمتها.. ويتطلب الأمر وضع ميثاق يحدد قواعد ممارسة مهنة الترميم - الحفاظ على التراث على المستوى العربي, ومعايير أخلاقية للعاملين في هذا المجال.. ويُؤسس هذا الميثاق لعلاقة المرمم بالأثر, الذي يقوم بترميمه، بل وعلاقته بمهاراته وقدراته ومؤهلاته، وعلاقته بغيره من الزملاء والباحثين، وغيره من أصحاب المهن الأخرى؛ لتحقيق الغرض الجوهري من عمله، وهو صون هذا الأثر والحفاظ عليه.
ولقد سبقنا الآخرون بزمن في وضع مثل هذه المواثيق المنظمة للعمل والملزمة لمن يقوم به، فلقد اعتمد المعهد الأمريكي للحفاظ على الأعمال الفنية والتاريخية (AIC), معايير وأخلاقيات لممارسة مهنة الحفاظ على التراث عام 1979م، وتعديلاتها عامي 1994و2000م.. ووضعت الجمعية السويسرية للحفاظ والترميم (SKR/SCR) ميثاقاً أو قواعد السلوك المهني للحفاظ على الآثار والتراث عام 1989م، ثم كانت مدونة أخلاقيات الحفاظ على الآثار, أو التراث التي وضعتها واعتمدتها الجمعية الكندية لأخصائيي صيانة التراث المحترفين (CAPHC) عام 1997م، ومنها أيضاً مدونة أخلاقيات وقواعد ممارسة الحفاظ, التي وضعها المعهد الأسترالي للحفاظ على المواد الثقافية (AICCM) عام 1999م.
ولعلي في هذا المقال أوجز بعضاً مما أود التأسيس له من بنود، على أن يتضمن المحور الأول تحديد ماهية وطبيعة المواد الأثرية أو التراثية، وتركيبها، وتقنيات صناعتها، وقيمها المختلفة؛ تاريخية، أو فنية، أو علمية، أو غيرها من الأهميات والقيم.
وقد يتضمن المحور الثاني، في هذا الميثاق المقترح، ماهية عملية الحفاظ ذاتها للآثار والتراث الثابت والمنقول، باعتبارها نشاطاً ذا أهمية خاصة في ذاته، وعامة في أهميته، يجب أن يُمارس في إطار الالتزام بجميع القوانين, أو النظم والاتفاقات الوطنية والدولية, ذات الصلة والمتعلقة بالممتلكات الثقافية والتراث الثقافي، حيث يمكن أن يتضمن هذا المحور متطلبات ما قبل الحفاظ - الترميم من الدراسة، والبحث، وإجراءات الفحص التشخيصي، وأخذ العينات، والتوثيق والتسجيل، ثم أشكال وتدخلات الحفاظ العلاجي من ترميم، ومعالجة، وصيانة، وخطواتها، والمواد المستعملة فيها، ومواصفات هذه المواد، والحفاظ الوقائي في بيئتي العرض أو التخزين.. وجميعها تتميز عن المجالات الأخرى ذات الصلة, (مثل: الفن، من نحت ورسم، أو الفنون التطبيقية الأخري مثل الحرف اليدوية) في أن الهدف الأساسي هو الحفاظ على التراث الثقافي، لا تجديد، ولا تجميل، ولا تغيير أو تعديل، ولا صيانة وإصلاح بالمعنى الوظيفي.
ويمكن أن يتضمن المحور الثالث، مواد الترميم، وطبيعتها، ومواصفاتها، وكيفية تطبيقها، والتزامات العمل بها، ويمكن الرجوع في ذلك إلى ما أشارت إليه وفصّلته المواثيق دولية متعلقة بالترميم والحفاظ على التراث, مثل: ميثاق أثينا عام 1931م، وميثاق فينسيا عام 1964م، وميثاق بورا 1981م، والميثاق الدولي للمحافظة على المدن التاريخية والمواقع الحضرية, أو ما يُعرف بميثاق واشنطن عام 1990م، وغيرها من توصيات اليونسكو ومبادىء وإعلانات الأيكوموس والاتفاقيات الدولية العديدة.. كما أصَّلت مثل هذه الاتفاقيات والتوصيات والمبادىء والمواثيق للآثار أو الممتلكات التراثية والثقافية وطبيعتها.
أما المحور الرابع، فيمكن أن يتناول، المرمم، أو القائم بعملية الحفاظ والترميم، ومؤهلاته، وإعداده علمياً وتدريبياً، واختصاصاته ومسؤولياته، وعلاقته بالأثر، وعلاقته بشركائه في العمل من المختصين أمثاله, أو المتدربين على يديه، أو المتعاونين معه من أصحاب الاختصاصات الأخرى.
والمرمم أو القائم بعملية الحفاظ هو الشخص الذي لديه التدريب، والمعرفة، والمهارات، والخبرة، والفهم، والذي يتمتع بمؤهلات معينة، واختصاصات محددة، وأخلاقيات يجب أن يتصف ويلتزم بها.
ويمكن أن نذكر في هذا الإطار أن مما يدخل في اختصاص القائم بالحفاظ - الترميم، تقديم المشورة والمساعدة التقنية من أجل حفظ التراث، وتطوير برامج ومشروعات في مجال الحفاظ - الترميم، وإعداد التقارير الفنية عن التراث الثقافي، وإجراء البحوث والدراسات، وتعزيز فهم أعمق للمهنة وزيادة الوعي بها بين المهن الأخرى والجمهور، ونشر المعلومات المكتسبة من الفحص والعلاج أو البحث.
وعن التأهيل التعليمي والعلمي للقائم بالترميم - الحفاظ يجب أن يهدف إلى تطوير قدراته التقنية، والعلمية، والفنية وغيرها من القدرات التي تساعده على إنجاز مهمته بأفضل شكل ممكن وبشكل تخصصي.. وينبغي أن يتسلح المؤَهل للعمل في حقل الترميم والحفاظ على التراث بفترة من الدراسة المتخصصة في إحدى الجامعات, أو المعاهد المتخصصة.. على أن تشمل هذه الدراسة التعليم النظري والتدريب العملي بصورة متوازنة، فلا يطغى أحدهما على الآخر، على أن تكون هناك دراسة ختامية تخصصية.. على أن تشمل موضوعات الدراسة العلوم العلمية مثل: الكيمياء، والفيزياء، والبيولوجيا، وعلم المعادن، ونظرية اللون، والعلوم الإنسانية, مثل: التاريخ، تاريخ الفن، وعلم الآثار، وعلم الأعراق البشرية، وتاريخ المواد والتقنيات، وتحديد ودراسة عمليات التدهور أو التلف، وطرق الفحص والتحليل، وعرض ونقل الممتلكات الثقافية، وأساليب وتقنيات الحفاظ، والحفاظ الوقائي، وعمليات الاستنساخ من المجسمات أو الآثار، وطرق التوثيق، والمبادئ الأخلاقية للمهنة والصحة والسلامة المهنية.. ويُوازي هذا التعليم النظري تدريب عملي في معالجة لآثار ومواد تراثية أصلية, أو نسخ مستقدمة توفر المادة اللازمة لدراسة حالة مشابهة لحالات المواد الأثرية، ليشمل ذلك فحصها، وتشخيصها، ودراسة تقنياتها القديمة، ثم مجالاً للتدريب على العلاج والترميم.
وعن طبيعة عمل المرمم أو القائم بالحفاظ على التراث، فهو المسؤول شخصياً عن هذا العمل أمام المجتمع.. ويحق له ممارسة عمله دون عائق يعوق حريته واستقلاليته.. وله الحق في أن يحصل على جميع المعلومات ذات الصلة بشأن مشروع الترميم والحفاظ الذي يقوم به.. وينبغي في هذا الإطار أن يكون قادراً على التعاون مع أصحاب المهن الأخرى المعنية بالحفاظ على التراث الثقافي.. كما ينبغي أيضاً أن يكون قادراً على البحث المستقل في مجال الحفاظ والترميم والتقنيات التاريخية والتكنولوجيا القديمة.
وعن علاقته بالآثار أو التراث, الذي يتعامل معه، فينبغي أن يؤكد احترامه للقيم والأهميات المختلفة لها.. واحترامه للسلامة المادية لها على أن يكون التدخل العلاجي فقط عند الضرورة.. كما يجب أن يعمل القائم بالحفاظ - المرمم لتحقيق أفضل قدر من معايير الجودة في عمله، وإن حالت الظروف المادية دون تحقيق ذلك، في إطار من الالتزام بأخلاقيات المهنة.. ويسعى القائم بالحفاظ - المرمم جاهداً لاستخدام المواد والإجراءات الوحيدة التي، وفقاً لمستواه الحالي من المعرفة، لا تسبب ضرراً للتراث أو الآثار، أو البيئة، أو الأشخاص.. وأن تتوافق مع مواد التراث الثقافي، وينبغي أن تكون مواد استرجاعية يسهل إزالتها تماماً إن أمكن ذلك.. وينبغي أن يوثق كل إجراءات عمله في تقارير مكتوبة ومصورة، وأية معلومات أخرى ذات صلة، ويجب أن يبقى هذا التقرير متاحاً ويمكن الرجوع إليه في المستقبل.
ومن الأمور المهمة التي يجب للممارس للترميم الالتزام بها, أن يقوم بالعمل في نطاق تخصصه، ويسعى جاهداً لزيادة معرفته وتطوير مهاراته؛ بهدف تحسين نوعية العمل المهني الذي يقوم به.. كما يجب عليه ألاّ يبدأ أو يستمر في الترميم إذا توقع أن يترتب عليه ضرر، أو أنه ليس الأفضل, أو الأهم لمصلحة الآثار أو التراث، ويجوز له أن يلتزم بالحفاظ - المرمم بالسرية المهنية.. وفي الحالات الطارئة، عندما يكون التراث الثقافي في خطر محدق، يجب عليه، بغض النظر عن مجال تخصصه، أن يقدم كل مساعدة ممكنة.
وأخيراً، يجب عليه الحفاظ على جلال المهنة، وعلى روح الاحترام مع العاملين بها، وكذلك مع المهن الأخرى المرتبطة بها ومن يمتهنونها.. كما يجب عليه أن يتعاون مع زملائه المهنيين الآخرين المعنيين بحفظ التراث، واستشارة زملائه في عمله وتبادل الخبرات والمعلومات.
ويجب عليه، فى حدود معرفته، وكفاءته، ووقته، والوسائل التقنية المتاحة لديه، المشاركة في تدريب المبتدئين والمساعدين، والإشراف على عملهم، ويتحمَّل المسؤولية النهائية عن النشاط الجاري في إطار إشرافه، كما يجب الحفاظ على روح الاحترام والنزاهة تجاه هؤلاء الزملاء.
** ** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم