يوم قضيته متجولاً داخل أروقة سجن المباحث العامة بالحائر, يومٌ مختلف في تهيئتي النفسية, وفي تخيلاتي العقلية, يومٌ أصبحت فيه مستعداً لألمٍ نفسي سيعقب هذه الزيارة الاختيارية لسجن المباحث العامة في الحائر بالرياض.
أصبحنا وأصبح الملك لله رددتها هذا اليوم وأنا أفكر في هذه الزيارة التي ترددت في قبولها خشية أن أخرج منها وفي خاطري شيء على جهازٍ أحبه كثيراً وكتبت عنه كثيراً, ألا وهو جهازنا الأمني ممثلاً في وزارة الداخلية ووزيرها الخلوق المحبوب الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز.
الصورة الذهنية عندي وعند أغلبية الناس سواء مواطنين أو غير مواطنين أن السجن عبارة عن غرف تنبعث منها روائح المساجين المتكدسين الذين لا ينالون حقهم الكافي من النظافة ولا التهيئة الصحيحة الصحية للمبنى عموماً ولغرف المساجين على وجه الخصوص.
كنت أردد ماذا سأقول عندما أعود من هذه الزيارة وقد شاهدت ما لا يسر؟ هل سأصمت عما رأيت؟ هذه مسؤولية سيسألني الله عنها يوم القيامة, كنتُ بالفعل عازماً على أن أبرئ ذمتي وأخاطب وزير الداخلية بكل صراحة فلن أجامل فهذا وطني وهذه قيادتي وزيارتي شهادة علي إن لم أقول الحق وأطالب بالحق لهؤلاء البشر وحتى وإن كانوا أجرموا في حق أنفسهم وفي حق دينهم ووطنهم إلا أنهم يبقون بشراً لهم حقوق الآدمية, وأنا أعرف أن ولاة أمر بلادي لا تقبل بأي تقصير ولا ظلم لإنسان مهما كان هذا الإنسان.
كانت ساعات ودقائق خالطها خوف وأمل.. خوف أن أشاهد ما يحطم نفسيتي, وأمل في أن أجد الوضع جميلاً ومريحاً.
السجن مهما كان يبقى سجناً, كونه يحد من حرية الإنسان, فكيف إذا كان مقيداً لحريتك وفي نفس الوقت مؤذياً لجسدك ونفسيتك.
نسمع عن السجناء في العالم, ونشاهد في الأفلام قوماً رثي الهيئة, شعور مسدلة وأظافر مهملة ووجوه مكفهرة ذابلة, أول ما تشاهدهم تعرف أنهم سجناء دون أن تسألهم.
هذه الصورة كانت تلازمني, وبكل تأكيد تلازم الكثير منكم.
جاءني خاطر فقال إنك لن ترى أي منظر مقزز فلن تريك إدارة السجن إلا نماذج جميلة وأماكن وثيرة, قلت له ربما ولكنني سأستخدم بعض ذكائي لأكتشف الحقيقة.
كان دخول منطقة السجن سلساً غير مخيف, فلا تفتيش غير المعتاد، ولا تحرٍ غير مألوف, تماماً كأنك تدخل أبسط إدارة حكومية, فكان ذلك مبشراً بيوم جميل.
الترحيب من إدارة السجن كان عربياً بامتياز من الجميع دون استثناء, بل كان مشجعاً لتكرار التجربة مرة ومرة.
ولكن.. جاءني نفس الخاطر الآثم مرة أخرى وقال: هذا الترحيب العربي الأصلي ما هو إلا لكسبك في صفهم وجعلك صديقاً لهم لتنقل ما يريدون!! يا لك من خاطر مؤذياً ومنكداً علي متعتي.
ما زال الوضع ضبابياً فلم تتضح الصورة, وماذا سيتاح لنا رؤيته، شاهدنا فلماً تعريفياً إعلامياً عن السجن وعدد السجناء وعدد المفرج عنهم والخدمات التي تقدم للسجين منذ اليوم الأول إلى أن يخرج من السجن، له ولأسرته ومن يعول.
أعداد السجناء لم يكن صادماً فقد كان بسيطاً, خلاف ما يشاع, وللعلم فإن معلومات السجناء ومعلومات أعدادهم متاحة عبر الشبكة الإلكترونية بكل التفاصيل الدقيقة, لذا فلن أتطرق لذلك في هذا المقال.
والآن تبدأ رحلة الاكتشاف, وكان السؤال الأول: هل سنرى نماذج تحددونها أنتم أم نختار ما نشاء؟ فكان الجواب الصادم للخاطر الآثم, بل لكم كامل الحرية في زيارة ما تشاءون دون قيد ولا شرط, فتنفست الصعداء, وبقيت بقية ماذا سأرى؟
هذا هو العنبر رقم كذا فيه كذا غرفة مفردة تفضلوا.. دخلت مقلباً ناظري ذات اليمين وذات الشمال, أرضيات من السيراميك الجميل وجدران نظيفة وإضاءة ساطعة, قلت لمدير السجن هذا سجن أم فندق؟ فقال: لك الحكم.
كان اسم الزنزانة يلازم تفكيري وأريد أن أرى الزنزانة التي أسمع عنها كثيراً وأرى السجن الانفراد, تقدمنا خطوات وإذا بغرفة ذات مساحة تصل طولاً أربعة أمتار وعرضاً مترين ونصف, تقع دورة المياه في آخرها وبها شاشة للتلفزيون متعدد القنوات, سألت: هذه تسمى غرفة انفرادية؟ فقال هذه الغرفة الانفرادية أو الزنزانة!! قلت له متعجباً هذه الزنزانة؟! معقول؟! قال: نعم هذه هي.
الزنزانة تصورها لنا الأفلام, أو هي كذلك في الدول الأخرى بمساحة ضيقة جداً لا يكاد الإنسان يتحرك, ولكنها في -الحائر- غرفة مكتملة العناصر جميلة مرتبة، لا تنقصها إلا الحرية.
توجهنا بعد ذلك لقسم آخر يقطنه فئة من السجناء الذين يتميزون بسلوك مختلف, لهم حضورهم المميز بين السجناء، غرف جميلة فسيحة، وقد لاحظت الفواكه والعصيرات كون الزيارة جاءت بعد وقت الغداء بقليل، شعرت بالفعل إنني داخل فندق وليس سجن, في نهاية العنبر باب يفتح على مساحة خضراء مكشوفة السقف يجلس فيها هؤلاء النزلاء متى ما شاءوا.
المفاجأة الكبرى
فندق خمس نجوم داخل سجن المباحث (الحائر) لمن هذا الفندق؟ إن أول ما تبادر لذهني أن هذا الفندق لضيوف السجن من ضباط وأطباء وخبراء وعلماء, لم أتخيل خلاف ذلك, ولكن المفاجأة كانت أن هذا الفندق ذا الخمس نجوم هو للسجناء.. إنني أعني ما أقول للسجناء, بل ولأسرهم, وتتلخص فكرة هذا الفندق المميز الذي جميع العاملين فيه من النساء، أنه يُمنح بعض السجناء فرصة اللقاء بزوجاتهم وأولادهم كل شهر ثلاثة أيام, وقد تتكرر أكثر من مرة في الشهر, هذا الفندق يحتوي على أجنحة مختلفة المساحات وبه كافة الخدمات الفندقية الراقية، بالمختصر فندق خمس نجوم، كأنك في أجمل مدينة.
وللصحة مكان بارز في هذا السجن, حيث يوجد مستشفى على أعلى المواصفات الفنية والإدارية, شبيه إلى حد كبير بأي مستشفى متقدم داخل مدينة الرياض.
يومٌ في سجن المباحث أو ما يُعرف بسجن الحائر، عدت منه مساءً محملاً بأكاليل التقدير لأمير الأمن محمد بن نايف الذي يولي أمن هذا الوطن جل اهتمامه, ويولي كرامة الإنسان جل عنايته, شاكراً لإدارة السجن هذه الروح الجميلة التي تحملت يوماً من الشرح والتجوال.
وبعد.. قد يأتي من يقول وماذا عن السجناء؟ إنك تتكلم عن البناء، فأقول مُشهداً الله على ما أقول، لا راجياً ولا خائفاً, لقد سمعت شكوى وسمعت ثناء، سمعت شكوى من أصحاب فكر منحرف جداً لا يريدون هذه الدولة ولا يرونها على حق, ومع ذلك يقولون لماذا نحن مسجونون!!! يرون أن هذه الدولة ظالمة لا تحكم شرع الله في جميع معاملاتها! فمثل هؤلاء ماذا نرجو منهم؟
فئة شاكية -وللأمانة أنقل شكواهم- جمعاً منهم جلس للمحاكمة وتم الحكم عليه ولكنه تأخر في التميز, وطلبوا أن ننقل شكواهم لأمير الأمن وزير الداخلية بالنظر في هذا التأخير لدى وزارة العدل.
هل سمعنا ثناء.. نعم والله لقد سمعت ثناءً كثيراً ودعاء عظيماً لهذه القيادة التي تعاملهم معاملة الأبناء الذين أخطؤوا ويقضون عقوبة خطئهم ليس إلا.
يومٌ في سجن المباحث العامة.. هكذا رأيته، وهكذا عشته، لم أمنع من وصل لنقطة معينة ولم أزيف حقيقة هذا المكان الشهير بأنه معتقل جاف العواطف سيء البيئة, خرجت منه وأنا أنظر إليه كصرح من صروح الإصلاح, لا صروح العقاب والنكال.
هكذا شاهدت -الحائر- فلا حيرة بعد اليوم فيما هو داخل هذا المكان.. الزمان والمكان لوطن يحفظ كرامة أبنائه حتى وإن أخطؤوا وإن عقوا.
اللهم اهد من ضل سبيل الرشاد, وثبت من هديته لخدمة الدين وبناء الوطن.
والحمد لله رب العالمين.