د. صالح عبدالله الحمد
كنتُ في سنة 1387هـ قد اتفقت مع مكتب صحيفة المدينة بالرياض لأكون مندوباً للصحيفة، أستقبل الإعلانات المختلفة، وأزود الصحيفة بالأخبار والتحقيقات. وكانت خبرتي في هذا الموضوع بدائية جداً؛ فغالبية الناس في ذلك الوقت من المواطنين وغيرهم من المسؤولين لا يوجد لديهم خلفية ثقافية، ولا عن مهمة الصحافة أيضاً، وكنت أنا أولهم، لكنني مغامر، وأحببت الدخول في هذا المجال رغم الظروف والعوائق المختلفة التي تأتي في مقدمتها ضعف الخبرة، وعدم توافر الأدوات، بل إن الرسالة إذا رغبت في إرسالها من الزلفي إلى الرياض لا يوجد وسيلة لها سوى البريد الذي يتأخر كثيراً في إيصالها، فضلاً عن ضمان الوصول أيضاً، وعدم توافر وسائل الاتصال من هاتف وفاكس وخلافه.. أما الآن فأنتم من يحكم كيف الأمور، وكيف الرسالة تصل خلال ثوانٍ، وتتابعها، وتتأكد من وصولها خلال ثوانٍ معدودة؛ لذا فإن الجهود الصحفية في ذلك الوقت كانت ضئيلة وضعيفة وشحيحة أيضاً، ولم يكن باستطاعة الصحفي، ولاسيما إذا كان ناشئاً مثلي، أن يزاول عمله على ما يرام، إضافة إلى قلة الوسائل الأخرى. وفي خضم ذلك لاحظت على نفسي التقصير، وأنني لم أقم بالعمل على ما ينبغي. وذات يوم، وخلال إجازة من العمل، توجهت للرياض لقضاء بعض الحاجات، والاتصال بمكتب الصحيفة بالرياض (شارع الملك فيصل). وفي أثناء عزمي على الذهاب إلى مكتب الصحيفة زلفت إلى ذهني فكرة كانت في الحقيقة ليست في محلها، لكنني مبتدئ ومجتهد، وأود أن أقدم عملاً يثبّت أقدامي بالعمل بالصحيفة، فقلت «لماذا لا أحاول أن أذهب إلى إمارة الرياض لآخذ تصريحاً من سمو أمير منطقة الرياض آنذاك الأمير سلمان؟». وفعلاً ذهبت عبر سيارة أجرة، وكانت الأجرة من الصالحية إلى مقر الإمارة ريالين فقط. زلفت إلى مبنى الإمارة، وسألت عن مكتب الأمير - حفظه الله -، وتوصلت إلى مدير مكتبه الذي رحب بي، وسألني عن حاجتي، فقلت له «أريد مقابلة الأمير لموضوع خاص». فقال لي «تفضل». وحينما دخلت على الأمير في مكتبه وجدته منهمكاً في قراءة المعاملات، وحوله بعض المراجعين، وانتظرت حتى جاء دوري، فأخذ الورقة - حفظه الله - وإذا بها طلب تصريح. والحقيقة، إنه لا مجال في ذلك الوقت لأي تصريح؛ لأنه لا توجد مناسبة، لكنني - كما قلت في البداية - مبتدئ، وخلفيتي الصحفية ضعيفة جداً. فتبسم - حفظه الله - ورد علي ببشاشة وهدوء قائلاً «لا يوجد لدي تصريح الآن، وحينما يكون هناك مناسبةياك الله». وأمرني بالجلوس، وقُدمت لي القهوة من ضمن المراجعين، وبعد ذلك استأذنت، وودَّعت سموه الذي كان رده - حفظه الله - ردًّا شافياً، ويدل على أبوة حانية، ومقدراً الظرف الذي جئت من أجله.
مرت السنوات كثيراً، وبعدها قام - حفظه الله - بزيارة تفقدية لمحافظة الزلفي، وكنت آنذاك ممثل صحيفة المسائية التي كانت تصدر من مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، لكنها أُقفلت لظروف خاصة. وعندما قابلت سمو الأمير سلمان - حفظه الله - في ذلك الوقت من ضمن مَن اصطفوا للسلام على سموه، وعند مصافحته - حفظه الله - تبسم، وقال «حتى صحفيو الرياض قادمون إلى الزلفي؟». هنا أجبته «أنا من محافظة الزلفي - أطال الله في عمرك - وهنا مناسبة طيبة لآخذ تصريحاً من سموكم». فتبسم - حفظه الله - وقال «لا مانع». وعند الانتهاء جئت إليه، وطلبت منه تصريحاً بمناسبة زيارته لمحافظة الزلفي والمحافظات الأخرى، فأجاب - يحفظه الله - لأن الزيارة تفقدية، إضافة إلى الاجتماع مع أهالي كل محافظة للاطلاع على حوائجهم وما تحتاج إليه محافظتهم، وكذا تفقد بعض المشاريع المختلفة.
وبعد مدة طويلة جداً زارني صديق في المنزل بمدينة الرياض، وعرض علي الذهاب إلى مطار الملك خالد الدولي (الصالة الملكية) لاستقبال سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله -، وكان هذا الصديق يعمل مستشاراً لدى سموه، فأخذت بشتي ورافقته إلى المطار، وكان الأمير سلطان - رحمه الله - سيأتي من زيارة لجمهورية إيطاليا. وبينما نحن في قاعة الصالة الكبيرة والكل منتظر سمو الأمير سلطان - يرحمه الله - إذا بالأمير سلمان - حفظه الله - يخرج، وعندما شاهدته ذهبت وسلمت عليه، وعرَّفته بنفسي قائلاً «صالح بن عبدالله الحمد من الزلفي». فقال - يحفظه الله - مازحاً «وأضف عليها الصحفي». فاستغربت معرفته لي معرفة تامة، وتبسم - يحفظه الله - وقال «ونعم والله بأهل الزلفي». ثم بعد وصول الأمير سلطان - رحمه الله - اصطف الجميع للسلام على سموه، وكان في الصف مجموعة كبيرة من الوزراء والمسؤولين، وكنت أود أن أقدمهم احتراماً لهم، ونظراً لأنني لست في مرتبتهم، لكنهم في الحقيقة لا يعرفونني، وكان من ضمنهم عدد كبير ما زالوا موجودين الآن، والبعض الآخر انتقل إلى رحمه الله. ومن الغريب أن من بينهم وزيراً كان قد استقال من وزارته، وكنت أراجعه حينما كان في وزارته كثيراً في بعض المطالب لمحافظة الزلفي، وكان في الحقيقة متضايقاً مني نتيجة المراجعات المستمرة والإلحاح الكثير، لكنه في الصالة لم يعرفني، وحاولت أن يكون قبلي في الصف، لكنه رفض من جملة الآخرين.
هذه ذكريات جميلة متواضعة جداً، سردتها دون رسميات مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله، وأدامه ذخراً للعرب والمسلمين، وأعانه على قيادة هذه البلاد الكريمة وخدمة مقدساتها، ومنحه الله الصحة والعافية، إنه سميع مجيب - آمين.