قليلة هي الشخصيات التي يبقى ذكرها طيباً، وتخلد إلى مراحل وأجيال لاحقة، وشخصية الملك عبد العزيز آل سعود من الشخصيات الخالدة، والتي ستبقى خالدة لمدة طويلة؛ لأن هذه الشخصية استطاعت بناء دولة عظيمة على جميع المستويات، وتتبوأ الآن موقعاً متميزاً في جميع المحافل العربية، والإقليمية، والدولية، وهي رقم صعب بين دول العالم كافة، كل هذا يبرهن على المكانة الكبيرة للمملكة العربية السعودية التي أسسها الملك عبد العزيز ورعاها أبناؤه البررة من خلفه، وما زالت هذه الدولة تسير على الأسس والمبادئ التي وضعها.
سنعرض في هذه العجالة بعض جوانب شخصية الملك عبد العزيز آل سعود، فقد ولد في أواخر الدولة السعودية الثانية بحدود عام 1876م، وكانت الدولة السعودية الثانية تمر بمرحلة ضعف شديد، إلى أن انتهت عام 1891م على يد ابن رشيد رغم المحاولات الكثيرة التي قام بها الإمام عبد الرحمن والد الملك المؤسس لإحياء الدولة السعودية الثانية وصد هجمات ابن رشيد غير أنه لم يستطع مقاومته، وكان لزاماً عليه أن ينتقل هو وعائلته إلى الكويت؛ ليترقب الأحداث، والتفكير بما حدث ويتطلع إلى المستقبل بعين الواثق من اليوم الذي يبعث فيه مجد الأجداد، وكان الشاب عبد العزيز جسده في الكويت، وعيونه تنظر إلى نجد يراقب ويخطط للعودة إليها، وظل في الكويت إلى أن واتته الفرصة ودخل الرياض عام 1902م مع مجموعة من الفرسان وأعلن أن الحكم لعبد العزيز آل سعود من على برج قصر المصمك، وبذلك أعلن الملك عبد العزيز مرحلة جديدة من التاريخ السعودي.
بدخول الملك عبد العزيز الرياض دانت له القبائل، واستجابت له المناطق حول نجد؛ بسبب الإرث الكبير الذي يتمتع به من تاريخ عريق وشخصية أجمعت الناس على أن الملك عبد العزيز هو الشخص المناسب للقيادة في هذه المرحلة.
كانت الجزيرة العربية قبل الملك عبد العزيز منقسمة على نفسها، مشتتة بين القبائل، تتناحر فيما بينها وتتقاتل إلى أن قيض الله سبحانه وتعالى لها الملك عبد العزيز الذي تمتع بكاريزما عظيمة وتجمعت فيه عناصر الزعامة والقوة ويعتبر علماً من أعلام الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، وقد كان على دراية ومعرفة بطبائع رجال القبائل وهذا ما ساعده على استماله الكثير منهم لجانبه، وكان يعرف القبائل والبطون والأفخاذ، وتواريخها، وتقاليدها، مما سهل عليه تنظيم هذه القبائل بنظام سياسي موحد متماسك يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وتوافرت في شخصية الملك عبد العزيز روح المصلحين من قوة النفس، والروح، والعقل الرزين، ويوجد بشخصيته الكثير من الفضائل، كاستقلال الفهم والفكر والإرادة، وامتلاك الرأي الشجاع الحصيف الموزون بميزان العدل، والحق، والبصيرة النافذة والذكاء المتقد، ولم يحاول الملك عبد العزيز تقليد غيره وإنما أخلص واجتهد من أجل الأمة في هدي الكتاب، والسنة النبوية المشرفة.
ومن جوانب الحنكة السياسية التي تمتع بها الملك عبد العزيز اتخاذه موقف الحياد في الحرب العالمية الأولى(1914-1918)، فلم يعلن الحرب على الدولة العثمانية، ولم يحارب في الوقت نفسه مع الإنجليز، مما جعل الفريقين يتنافسان على كسب وده، وهذا ما جعله من أكثر الرابحين بعد انتهاء الحرب.
اتصف الملك بصفة الثبات؛ لذلك أطلقوا عليه صفة الجبل، مما يدل على ثباته في مواقفه ولا يمكن أن يتزحزح عن موقفه مهما جابهه من المخاطر والأهوال، لذلك نرى نجاحاته الكبيرة في كل المعارك التي خاضها، ليؤسس المملكة العربية السعودية على أساس التوحيد.
حفظ الملك عبد العزيز القرآن الكريم، وكثيراً من الأحاديث النبوية الشريفة، وألم إلماماً واسعاً بالأحكام الشرعية، ولم يكتفِ بحفظها، بل وضعها موضع التطبيق، وظل طوال حياته يجتمع كل ليلة مع العلماء والفقهاء حيث تقرأ كتب العلوم الدينية، ويدور نقاش حول ما تم قرأته بينه وبين العلماء والفقهاء، وهذا يدلل على الأهمية الكبيرة للملك عبد العزيز في تطبيق شرع الله، والعودة للكتاب والسنة النبوية المطهرة، وهذه الصفة مميزة كثيرا عند الملك عبد العزيز حيث إن قليلاً من القادة ممن يتجهون هذا الاتجاه، ولا يتجه مثل هذا من لم يكن ملماً بالعلوم الدينية والفقهية.
ومن الصفات التي ميزت شخصية الملك عبد العزيز التمسك الشديد بتطبيق أحكام الدين، بحيث إنه لا يتهاون إزاءها ولا يهادن فيها.
الشجاعة من الميزات التي ميزت شخصية الملك عبد العزيز، حيث كان شجاعاً إلى درجة كبيرة، فلا يتردد في خوض المعارك إذا اضطر لها مهما كانت قوة خصمه وعدده وعدته، وكان قائداً عسكرياً موهوباً يجيد رسم الخطط الحربية وتنفيذها. على الرغم من القوة، والشدة، والقسوة التي تمتع بها الملك عبد العزيز، غير أنه كان رقيق القلب مرهف الإحساس، ويعتني بالناس جميعاً، والناس عنده سواسية كأسنان المشط، وكان حريصاً على أن يبلغ كل ذي حق حقه.
كان الملك عبد العزيز باراً بأبيه، مطيعاً له في صغره، وشبابه، حتى بعد أن تولى الإمارة، ومن الأمثلة على حسن البر بالوالد أنه في فريضة الحج كان الإمام عبد الرحمن شيخاً كبيراً أعياه التعب في الطواف، فأسرع الملك عبد العزيز وحمله وأكمل بقية الأشواط في منظر مؤثر يدل على البرّ، وحسن مصاحبة الوالد وحسن التعامل معه.
اعتمد الملك عبد العزيز في سياسته الداخلية على الرؤية الإنسانية للمواطن السعودي حفاظاً على كرامة هذا الإنسان وعبر عن ذلك بقوله « والله -يا أهل البلد الطاهر المقدس- إني أري الكبير فيكم كأبي، والوسط كأخي، والصغير كابني، وإن الذي أقوله هو الذي اعتقده والله على ما أقول شهيد». هذه الصفات التي كان يتمتع بها الملك عبد العزيز التواضع، وصفاء، النفس، والفكر من كل الشوائب والأحقاد. لذلك تمكن الملك عبد العزيز بمهارة نادرة من جذب مناوئيه، وكسب خصومه، وتحويلهم إلى أنصار وأعوان، وتوظيفهم في بناء الدولة الجديدة، وهذه القيادة الناجحة والعبقرية الفريدة.
أمّا بخصوص السياسة الخارجية فقد أجتذب الملك عبد العزيز إلى ديوانه عدداً كبيراً من المستشارين الدهاة من مختلف البلدان العربية؛ كي يطلع من طريقهم على خطوط السياسة العالمية، غير أن ما ميزه أنه لم يكن يقبل كل ما يقوله المستشارون، بل كان يستمع بهدوء إلى كل واحد منهم، ويوازن هو بين أقوالهم، ثم يصدر حكمه بعد التروي، ولعل الصفة البارزة التي كان يتمتع بها انه لم يكن يحب من مستشاريه أن يؤيدوه في كل ما يقول، بل كان يريد منهم أن يصارحوه الرؤى، وهذه الميزة تفرد فيها الملك عبد العزيز عن غيره من الحكام الذين اعتادوا تقريب المداحين والمتلفين.
وكان الملك عبد العزيز عطوفا حتى على الإبل، ويذكر الريحاني قصة مثيرة عن عطفه على الإبل حيث يقول: «كان (الملك عبد العزيز) يراقب قافلة أناخت عند خيمة الممونة تحمل إلينا الخضر والماء من الأحساء. فأمر أن يحضر قيمها، فسأله سؤالاً بخصوص جمل من الجمال، فقال القيم هو حرون (الذي يرفض الأكل والانقياد) يا طويل العمر، فأجابه السلطان: اتركه يرعى مع الجيش (تطلق على مجموعة الإبل من ركائب ومحملات) لا ترجعه معك.. وقال: العدل عندنا يبدأ بالبل-الإبل- ومن لا ينصف بعيره يا حضرة الأستاذ لا ينصف الناس».
ونختتم حديثا عن شخصية الملك عبد العزيز بما وصفه أمين الريحاني بكتابه «ملوك العرب» حيث قال» .... هو رجل قبل كل شيء.
رجل كبير القلب والنفس والوجدان. عربي تجسمت فيه فضائل العرب إلى حد يندر في غير الملوك الذين زينت آثارهم شعرنا وتاريخنا، وتجسمت فيه كذلك من آفاتهم ما لا يحاول أن يخفيه رجل صافي الذهن والوجدان، خلو من الادعاء والتصلف، خلو من التظاهر الكاذب». رحم الله الملك عبد العزيز، فقد صدق مع ربه فأعزه الله.
د. فتحي محمد درادكة - جامعة الملك فيصل