ألا إنما الإنسان ضيف لأهله
يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل
المرء مهما طال به العمر واستمتع بأطايب الحياة وملذاتها، وعاش بين أهله وأبنائه، ومع أحبته وجيرانه، فإن ذكر شعوب مفرق الجماعات وناقل الأحياء من دار الفناء إلى عالم البقاء والخلود لابد أن يدور بخلده حينما يميل إلى الراحة ويخلو بنفسه أنه سيمر عليه في يومه الموعود المخفي في ضمير الغيب، فالسعيد من يوفقه المولى لإخلاص العبادة له، وحسن التعامل مع الغير والبذل في أوجه البر والإحسان - إذا كان قادراً على ذلك - لأن المال عارية في يد الإنسان ينتقل من كف إلى كف إلى قيام الساعة، وهذه سنة الله في خلقه، فمن سعادة المرء أن يُذكر بالخير في أيام حياته، ويُدعى له بعد موته وغيابه عن الوجود:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني
وهذه الصفات المحمودة تظل مجتمعة - بحول الله ومشيئته - في حبيبنا وصديقنا الشيخ الفاضل سعد بن عبدالرحمن الراشد - رحمه الله الذي انتقل إلى دار المقام مأسوفاً على رحيله في يوم الخميس 30-4-1436هـ وقد أديت صلاة الميت عليه بعد صلاة الجمعة 1-5-1436هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام ودفن جثمانه الطاهر بمقبرة أم الحمام ـ رحمه الله - فالشيخ سعد الراشد ينتمي لأسرة ذات علم وفضل، فلا غرو أن ينشئ محباً للعلم منذ نعومة أظفاره، وقد واصل دراسته في مدينة الرياض هناك حتى نال الشهادة العالية بكلية اللغة العربية بتفوق عام 87-1388هـ، وبعد تخرجه لم يطمع في العمل الوظيفي بل عمد على تأسيس دار نشر لتكون منهلا عذبا لرواد العلم وطلابه سماها (مكتبة المعارف للنشر والتوزيع) في مدينة الرياض ليصبح اسمها على مسمى متفق خطا ومعنى ..، والتي تعتبر من أوائل دور النشر في المملكة إن لم تكن أولها، واستمر في تزويد دور النشر والطباعة في لبنان ومصر وسوريا وغيرها من الدول العربية والإسلامية بشتى الكتب والمراجع المفيدة التي يحتاج إليها المؤلف وطالب العلم، وقد حرص الشيخ سعد - رحمه الله - من خلال دار النشر هذه على نشر العلم في العالمين العربي والإسلامي حتى أصبحت في مصاف دور النشر الكبرى المعروفة، واستحق - رحمه الله - لقب شيخ الكتبيين، وكأني بأبي عبدالرحمن قد وضع في مقدمتها هذا البيت ليلفت أنظار عشاق الكتب الأدبية والثقافية، والشرعية معاً:
هذي رياض يروق العقل مخبرها
هي الشفا لنفوس الخلق إن دنفت!
مما شجع الإقبال عليها ورغب حضور العديد من المؤلفين وأصحاب دور النشر والطباعة في داخل الوطن وخارجه ليتفقوا مع الشيخ سعد على نشر الكتب، وكان مثالاً في أخلاقه وتعامله مع الناس، ومع جيرانه وأسرته، وقد طبع على التسامح في البيع والشراء في عالم الكتب النفيسة، وقد نشر العديد من المؤلفات مثل مؤلفات العلماء الكبار مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ ناصر الدين الألباني والشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبدالرحمن السعدي، وكتبهم من كتب الفقه والحديث والتفسير، وقد سعدت بمعرفته مبكراً منذ افتتاح مكتبته التي يربو على تأسيسها عقود طويلة، وكنت أقصده كلما أحضر من بلدي حريملاء واشتري منها كميات كبيرة من الكتب الشرعية والأدبية والدواوين الشعرية لإهدائها للأصدقاء ومن يزورني في منزلي، ولازلت ذاكرا كلمته اللطيفة حينما رآني أخرج من داخل المكتبة ويدي خالية من الكتب قائلا : (أفيه أحد مغضبك «أي رافع السعر المعتاد») وستظل هذه الكلمة الجميلة باقية في نفسي مدى الأيام، وكأني بأخي الشيخ سعد حينما أحس بدنو أجله، أحب أن يمر المرة الأخيرة على مكتبته الحبيبة إلى قلبه مودعاً لها كتوديعه لأحد أحبابه وزملائه مكفكفاً دمعات عينيه، ومكرراً طرفه في جوانبها ورفوفها التي تنوء بأحمالها من الكتب، وبداخله ما به من لوعات فراقه الأبدي، مكرراً هذين البيتين:
أقلب كتباً طالما قد جمعتها
وأفنيت فيها العين والعين واليدا
وأعلم حقاً أنني لست باقياً
فيا ليت شعري من يقلبها غداً
ولئن غاب عنا (أبو عبدالرحمن) وبات تحت طيات الثرى فإن ذكره الطيب وسيرته العطرة باقية في نفوس محبيه مدى الأيام، تغمده المولى بواسع رحمته والهم ذويه وأبناءه الصبر والسلوان الذين سيكملون بإذن الله سيرته العطرة في طباعة الكتب العلمية ونشرها.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف