منذ فتحت عيناي ووعيت على الدنيا وهو كل شيء في حياتنا، فقد كانت أمي مريضة وهو يخدمها حتى في أخص أمورها، ولا يكاد أحد يعرف شخصيته في بيته إلا أولاده، وحين استفحل المرض بأمي أتم جميع إجراءات السفر إلى مصر للعلاج وذهبت مع خالي ومكثت هناك أشهراً فيما بقي هو مع أبنائه لرعايتهم، ولكنها عادت مريضة كما ذهبت، وما لبثت أن توفاها الله، ورحلت تاركة وراءها خمس بنات وولد عمره سنتان، ولم يتغير برنامجنا اليومي ولكننا فقدنا «أمي».
يقوم الوالد الفجر ويشتري الفول ويغلي الحليب ويشرف على إفطارنا ويشاركنا ويحمد الله عند كل لقمة يتناولها، ثم نذهب للمدارس، ويأخذ أختي الصغرى معه للعمل.
لم يفكر قط بالزواج ولكن أقنعه أخوه، واختار له زوجة صالحة من بيت صالح مشهود لأمها بالخير وتربية الأيتام. وتزوجها والدي ولم يتغير علينا، حيث استمر حنانه وعطاؤه. فقد كان يعرف تفاصيل كل حياتنا حتى أثناء البلوغ وحين الزواج والحمل والولادة.
وكان في بيته يختلف تماماً عن خارجه، حيث يعيش شخصية قوية خارجه، بينما في الداخل حنوناً كريماً بلا حدود وشفقة أم في جسد رجل! وكان مكافحاً عصامياً بنى نفسه بنفسه. ففي الصباح موظف وفي المساء يعمل على سيارة أجرة، ولم يقصر قط في تربيتنا حيث لدينا غسالة وثلاجة وتلفزيون قبل أن تصل للناس.
وحين يتحدث عن أمي تنهال الكلمات مع العبرات في آن معاً. وإذا رآنا استبشر وتهلل وجهه، وكان رحمه الله يناديني بـ(أمي) وكان يقوم على شئوننا حين الولادة، وكان حريصاً على أبنائنا ويخاف عليهم من الناس ويراهم أقماراً تمشي على الأرض! وكما نضطر لإخفاء أمراضنا وما يجري في حياتنا شفقة عليه حيث يصل الهلع عنده حد البكاء. وكان حريصاً على مظهرنا أمام الناس حتى عمد لشراء سيارة جديدة حين بدأ بالقيام بتوصيل إحدى أخواتي للعمل.
توفي له ثلاثة أبناء كلهم اسمهم صالح على اسم والده، ولم أذكر أن سمعته يتحسر عليهم قط، بل كان صابراً محتسباً.. أسأل الله أن يجعلهم في ميزان حسناته.
وكان حريصاً على دراستنا وتلقي العلم برغم أنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب، لكنه غرس بنا حب العلم والتفوق، ويحرص على متابعة دروسنا حيث يقول ذاكروا وتعالوا أسمّع لكم ويفتش دفاترنا ويعرف الممتاز ومن لديه أخطاء. كان صديقه الراديو يتابع برامج التحليل السياسي والاقتصادي وكنا نتابع معه، ويعمد لإغلاق التلفزيون أثناء العام الدراسي ولا يفتح إلا بالإجازة الصيفية إلى بعد العشاء ثم يغلقه لننام.
وحين دخل المستشفى تعرض للفحوص والعلاج فلم يبق بجسمه مكان إلا وفيه أثر للإبر سواء مغذي أو تحليل حتى ساقيه وفخذيه.
وكنا ندعو له ونسأل الله له الخيرة وألا يطيل عليه شدة، لا سيما بعد أن فقد الذاكرة تماماً وصار لا يعرف أحداً سوى زوجته أم محمد يسأل عنها كثيراً، حيث كان رحوماً كعادته مشفقاً على عائلته.
فالحمد لله حمداً كثيراً كما يحب ويرضى، اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه واجعل ما أصابه زيادة له في الحسنات ورفعه في الدرجات.
هذه أسطر قليلة من سيرة هذا الرجل العظيم الذي ما رأيت مثله.
اللهم أجبرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها، وارحمه رحمة واسعة.
- هيلة عثمان الحسون