مثل إسباني جميل جداً مع التصرف بما يناسب الموضوع وأصله (كلب الجنان لا يأكل ولا يدع سيده يأكل) أعتذر للقارئ والقارئة من عنونة هذا المقال بهذا العنوان، فهو ينطبق على الكاذب في قوله وفعله، أسألكم بالله هل أحب أحدكم كذاباً قط؟.

وقد قال بعض الحكماء: آخ من شئت، واجتنب ثلاثة: الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، والملول فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكدها يخذلك، والكذاب فإنه يجني عليك آمن ما كنت فيه من حيث لا تشعر. وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسن العهد من الإيمان) وعنه صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن الرجل بالإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح). والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (سورة الصف 2، 3).

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: هل يكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: فهل يكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، قيل: فهل يكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا.

وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا خير في الكذب) في حديث سُئل فيه.

وعن مالك أنه بلغه عن ابن مسعود أنه كان يقول: (لايزال العبد يكذب وينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب فيكتب عند الله من الكذابين).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار).

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً: مَنْ إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان).

قلت: وهذه الخلال الثلاث يجتمعن في الكذاب كلهن، فهو يكذب في الحديث، ويخلف وعده، ويخون.

حدثني والدي قال: زار الملك فيصل المدينة المنورة وأميرها في ذلك الوقت: عبدالله بن سعد السديري رحمهم الله جميعاً. وأقيم حفل بهذه المناسبة كبير جداً، ومَنْ كالملك فيصل في لحظه ولفظه، فتقدم أحد المواطنين ضد أحد المسؤولين في إمارة المدينة وأنه كذب عليه في التقرير الذي رفعه إلى المحكمة بشأن ملكه الزراعي وأنه لم يُحيَ الإحياء الشرعي، ويطلب مندوباً من الملك فيصل حتى يقف على حقيقة الأمر، فأرسل أحد مرافقيه ونحن جلوس عنده، وبعد قليل عاد المندوب وقال: محياة ونخلها يصرم (أي يجذ) بالحبل، يعني من طوله، فالتفت الملك فيصل إلى الشيخ عبدالعزيز بن صالح رحمه الله وكان في وقتها رئيس محاكم المدينة وقال: إذا لم يوجد مدع معارض أعطوه إثبات تملك. وأمر بعزل ذلك المسؤول. وقال: (نريد الحق) كررها ثلاثاً، حتى قلنا ليته سكت من شدة غضبه. ثم وجه أمير المدينة قائلاً: قبل تعيين أحد تحروا عن صدقه من كذبه قبل أن تتحروا عما بينه وبين ربه.

رحمك الله يا فيصل بن عبدالعزيز، وهل الكفر إلا كذب على الله وتكذيب له.

وما رأيت أخزى من كذاب، وما هلكت الدول، ولا هلكت الممالك ولا سفكت الدماء ظلماً ولا هُتكت الأستار بغير الكذب، ولا أُكِّدت البغضاء والإحسن المردية إلا بالكذب لايحظى صاحبه إلا بالمقت والخزي والذل، وأن ينظر منه الذي يتحدث إليه فضلاً عن غيره بالعين التي ينظر بها من الكلب.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم وقاتل الثلاثة). يعني المنقِّل، والمنقول إليه، والمنقول عنه. وإن كان الناقل صادقاً، فكيف بالكذاب، فالتحذير عنه ومنه أشد.

والأحنف بين قيس يقول: (الثقة لا يبلِّغُ)، فكيف بمن يبلغ كذباً.

وحق لذي الوجهين وهو الكذاب ألا يكون عند الله وجيهاً، وهو ما يجعله من أخس الطبائع وأرذلها.

ولا أخس من طُبع على الكذب واستولى عليه، واستولى على عقله وألفه ألفة النفس الأمل، وأشد من ذلك خسة من يؤكد كذبه بالأيمان المؤكدة المغلظة مجاهراً بها أكذب من السراب، مستهتراً بالكذب مشغوفاًَ به، لا يزال يحدث من قد صح عنده أن لا يصدقه ، فلا يزجره ذلك عن أن يحدث بالكذب.

وليس من نبه غافلاً، أو نصح صديقاً، أو حفظ مسلماً، أو حكى عن فاسقٍ أو حدث عن عدوِّ ما لم يكن يكذب ولا يكذب ولا تعمر الضغائن كاذباً، وهل هلك الضعفاء وسقط من لا عقل له إلا في قلة المعرفة بالصادق من الكاذب، فالأول دواء، والآخر داء. والثاقب القريحة لا يحفى عليه أمرهما.

وعلى المسلم أن يجعل دينه دليلاً له وسراجاً منيراً يستضيء به، فحيثما سلك به سلك، وحيثما أوقفه وقف. فالعاقل أعلم بطريق الحق وأدرى بعواقب السلامة ومغبات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه وباحث بقياسه في ظنه.

ولا أخطر على الأمة من كاذب يتلون كأبي براقش: طائر صغير، أعلى ريشه أغبر، وأوسطه أحمر، وأسفله أسود، فإذا انتفش تغير لونه ألواناً شتى، يسمى به الرجل المتلون في الحديث، فيجب على من امتحن بمخالطة من هذه صفته على أي وجه كان أن لا يستفرغ عامة جهده في مخالطته، وأن يقيم اليأس من دوامه حصناً لنفسه، وخصوصاً الذين يكذبون على المشايخ وولاة الأمور إما في منتدياتهم أو مجالسهم، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتفريق بينهم. فليتق الله هؤلاء أن تصيبهم فتنة بما كانوا يكذبون.

ولا تَزْعُما في الجد مزحا كمولج

فساد علاج النفس طيَّ صلاحِها

ومن كان نقل الزور أمضى سلاحه

كمثلِ الحُبارى تتقي بسُلاحِها

رئيس محكمة استئناف - رئيس محاكم جازان- عضو مجلس القضاء سابقاً.