اعتدت أن أزور المكتبة في كل مرة أشعر فيها بالوحشة.. روحي المعذبة تحضني للذهاب إلى هناك.. رغم أن شبح الوحدة لا ينفك يطاردني.. إلا أنني لا أستريح سوى بين الكتب والقليل من الناس..!
ولأنها عادة اكتسبتها مؤخراً عملت على تطويرها بما يتناسب مع مزاجي.. كنت أتمهل في صعود السلم.. درجة.. درجة.. لكي أتخفف من عبء العالم، وأدرّب قدمي على «التسكّع»..!
نعم.. لقد كنت أتسكع.. ويا للأسف.. شأني شأن هؤلاء المزعجين الذين يملؤون الشوارع.. يعاكسون الفتيات، القطط، وربما الكلاب!!
لا فرق بيننا كثيراً.. الكل يتسكّع، ولكن على طريقته!
كنت أتمشّى في تلك الأروقة.. بين رفوف الكتب التي حفظت أماكنها عن ظهر قلب، لم تتغير، ولم تتبدل، منذ آخر زيارة.. وما لاحظته أن رواية «الأخوة كارامازوف» بأجزائها الأربعة التي كانت تملأ الأرفف السفلية لم تعد موجودة!
ولأنه لم يكن أحد برفقتي.. تملؤني الحاجة إلى الكلام.. لم أجد بُدًّا من افتعال حوار مع الموظف الذي أعتقد بأنه يعرفني جيداً.. سألته ما إذا كانت هناك نسخة لكي أشتريها.. ولكنه أجابني بالنفي، وسألني ما إذا كنت أود أن يطلبها من أحد الأفرع.. حتى تراجعت إلى الوراء قليلاً، وقلت له «لا داعي».. فابتسم ابتسامة غامضة..!
في الواقع، كانت عيناي معلقتين في إحدى العربات الخاصة بالزبائن.. كانت مليئة بالكتب، ووجه «ستيف جوبز» يطلّ عليّ من خلال أحد الأغلفة.. خُيّل إلي بأنه يغمز لي بعينيه.. فشعرت بالغبطة، وضحكت ضحكة بلهاء.. وكلي فضول لكي أعرف لمن تكون هذه العربة..؟!
فكرت.. «لا شك بأنها لأحد المثقفين الذين يحرصون على حلاقة ذقونهم وتلميعها كل صباح.. يا حبي لتلك الشوارب الخفيفة.. هؤلاء الذين يلتزمون بعادات الطبقات الراقية.. يتمتعون بأذواق رفيعة.. يقرؤون الكتب كل يوم بجوار القهوة السوداء والصحف المفروشة على الطاولة.. يستمعون لأغنيات أم كلثوم وحليم.. وربما لسيمفونيات باخ وشوپان..
سأكون محظوظة جداً لو نظر أحدهم إليّ.. ربما سأسأله أن يقترح علي كتاباً.. فحتى أنا أحب القراءة، مثقفة، أحتسي القهوة كل صباح.. رغم أني لا أطيق مذاقها المر.. فإذا وقع أحدهم في غرامي.. سيتحقق ما كنت أحلم به وأتمناه.. سأرتبط برجل مثقف.. يهديني قصائد ابن زيدون لولادة.. وقصائد إيلوار لغالا..
ولكن.. ماذا لو كانت هذه العربة.. لـ.. لـ.. فتاة مثلي؟!!».
لقد شعرت بنبضات قلبي تزيد.. وأنفاسي تتسارع.. وأن سقف الحلم الذي بنيته.. بدأ يتداعى شيئاً فشيئاً.. يكاد يسقط على رأسي.. لمجرد افتراضي أن تكون هذه العربة «لفتاة» مثلي..!
وما هي إلا دقائق.. بطيئة.. ثقيلة.. حتى امتدّت يد سمراء.. لتدفع العربة. كان صاحبها شاباً نحيلاً، يرتدي قميصاً مخططاً بالأسود والأصفر. كان شعره منكوشاً، يتقدّم نحوي ببطء ككابوس.. يغتال أحلامي.
وقفت مشدوهة في مكاني.. ها هو الكابوس يقترب.. ها هي أحلامي.. تموت!.. وآه يا الإتّي..
- حنان الحربش