يقولون دائماً إن النجاح والطموح مذكران، وأنا أقول إن الهمة امرأة - غالباً إذا ما ارتبط النجاح والإنجاز باسم المرأة في مجتمعاتنا العربية يصبح أمراً غريباً، وكأن هذه الأنثى تميزت وبرعت في مجال هو حِكر للرجال دون النساء، هي ثقافة مجتمع آن لها أن تبيد وتندثر، وهي نتاج مجتمع تربى على أن هناك مهناً وأعمالاً ومهارات تختص بالرجال، ومن تطرق بابها من النساء فهي خارجة عن المألوف تريد المبارزة والشهرة وتهوى حب الظهور.
ولعلي أضرب مثالاً بسيطاً بالإعلام والعمل الإعلامي بشتى أنواعه سواء كان مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً، فارتباط الإعلام بتاء التأنيث أمر لافت، فحين يُقال: الإعلامي فلان يبدو الأمر عادياً وغير ملفت، ولكن حين يُقال الإعلامية فلانة تلتف الرقاب بل! تنعصر عصراً وتحدق الأعين ويبدأ البحث عن هذه الإعلامية في أصلها وفصلها ومَنشئها وطريقة تربيتها والبيئة التي عاشت فيها ومستوى ثقافة أسرتها وعن دينها وخلقها، وترى ما تكتبه الكاتبة أو الإعلامية تحت دائرة الضوء وحديث المجالس، زد عليها التشكيك في سعوديتها ومَنشئها وانتمائها وما طرحت هذا المثال إلا لتوضيح ما كنت أرمي إليه.
- أذكر في يوم من الأيام كنت أكتب بأحد المنتديات المحلية بمنطقتي، ولم أكن أعرف أن هناك منتدى محلياً حيث كنت حينها أدير موقعي الخاص باسم «منتدى حروف الإبداع» لم يكن مختصاً بمنطقة معينة ولا بفكر معين ولا لجهة معينة، بل هو منتدى كغيره من المنتديات الحرة التي يستفيد منها الأعضاء للحصول على موضوع معين أو يطرح من خلاله قضية عامة تناقش وأغلب أعضائه يختبئون خلف أسماء مستعارة.. فقلت لعلي أشارك بهذا المنتدى المحلي ونتصفح محتواه الذي لم يكن يعبر حقيقة عن اسمه كمنتدى ثقافي.. وحينها سجلت عضويتي باسم مستعار كغيري (برينسيسة.. أو ريانة)، وعندما كنت أشارك برأيي الشخصي في موضوع ما.. أجد بعض التعليقات المثيرة للضحك كان من أقواها تعقيب يُشكك في أنني - رجل يرتدي عباءة امرأة أو متخفٍ بمعرّف نسائي - معبراً عن ذلك بقول: (يكاد يستنوق الجمل) لعله يقرأها ويتذكرها الآن!!.. أدركت حينها أننا بحاجة لسنوات كثيرة حتى يستوعب مجتمعنا أن المرأة تستطيع النقاش والحوار بعقلانية ومنطق وحجة، وتستطيع أن تكون سيدة بشخصية مائة رجل قادرة على إدارة الأمور واتخاذ القرارات المصيرية التي تشكِّل خط سير حياتها.. في تلك اللحظة مباشرة طلبت من مدير المنتدى آنذاك إظهار اسمي الحقيقي دون تردد، فما أكتبه وأشارك فيه لا يشعرني بالخجل ولا المنتدى يتبنى آراء الأعضاء.. لم يكن الهدف الخروج عن المألوف أو اتباع سياسة خالف تعرف، ولكن الهدف هو العمل بموجب قناعاتي وثقافتي التي تربيت عليها التي تتيح لي المشاركة في إبداء الرأي، ومنحتني قدراً جيداً من الحرية في اتخاذ القرارات وبالتأكيد كنت أُخطئ أحياناً، ولكنها خبرات وتجارب تحسب لي في رصيدي الاجتماعي.
واستمرت الفكرة تتبلور ولم أجعلها تتمحور حول ذاتي، بل حاولت توسعة دائرتها لعله يأتي اليوم الذي أجد فيه اسماً نسائياً آخر يتمرد على ذاته ومجتمعه، ليقول: هذا صوتي لن أسمح لكم بخنقه.. هذه قضيتي سأحملها بنفسي.. هذه رؤيتي سأعبر عنها.. ولست بحاجة لمن يُوصلها عني..
هي المرأة التي كانت تتحدث في داخلي.. ولم تخضع لمحاولات فشلت في إخراس صوتها...
عشت بمجتمع متناقض يحب المرأة ولا يحترمها.. لا يستغني عن وجودها في حياته ويهمّشها... يدّعي أنه مجتمع مسلم.. ويخالف نهج الإسلام وشرعه في التعامل معها.. مجتمع لا يأخذ من كتاب الله غير قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} (34) سورة النساء، ويجتزئون من كتاب الله ما يتناسب مع قناعتهم، لا ما جاء به النص القرآني كاملاً.. مجتمع يقيّم الإنسان بمنظره وظاهره لا بجوهره وما يحمله عقله من فكر.. ثقافة الاضطهاد التي توارثوها جيلاً بعد جيل.. تجعلني أحياناً أقول في نفسي: ربي لا تذر منهم على الأرض ديارا... لما لفكرهم من خطورة على إرث هذا المجتمع الإسلامي العظيم، فما علمنا عن محمد صلى الله عليه وسلم إلا حبه واحترامه وتقديره للمرأة فكان يشاركها ويأخذ بمشورتها ويقتنع برأيها.. في السلم والحرب بل ويخصص يوماً للجلوس مع نساء المسلمين مستمعاً وموجهاً ومربياً.. ومعلماً.
ومع إدراكي الكامل بأن هذه الثقافة التي تميّز في التعامل بين المرأة والرجل، هي ثقافة دخيلة علينا وعلى مجتمع الجزيرة العربية وخصوصاً بعد الإسلام... وهي أيضاً ثقافة دخيلة تتبناها جماعات متطرفة دينياً ومسيّسة تتعارض تماماً مع سياسة هذا الوطن العزيز - المملكة العربية السعودية - فمنذ بداية تأسيس هذه الدولة العظيمة، ومنذ مراحلها الأولى كانت المرأة السعودية شريكاً سياسياً ودينياً واجتماعياً في النهضة والبناء...
لم نأت ببدع من القول.. ولم نكن في يوم من الأيام إلا مُحبات لهذا الوطن.. أدركنا دورنا وفهمناه.. وضّحنا هدفنا.. ووضعنا خططاً لتحقيقه.. حملنا رسالتنا.. الدينية والوطنية.. مشارِكات في البناء.. سعيدات جداً بحمل مشعل العطاء... نفرنا من الريبة والشك... فكتبنا بأسمائنا... نحمل على عاتقنا هموم مجتمع النساء.. نملك الهوية.. ونحمل التوجه الذي لا يخالف الدين.. لكن ربما يتعارض مع ثقافة المجتمع.