إنّ حاجة الأمم للاستقرار لتتحرك وتتطور كحاجة الطائرات إلى الوقود لتحلِّق وتنطلق، وحاجة الآلات إلى شتى القوى لتدور وتنتج، وقد مرت علينا أيام نحس وسعد، وشدة ورخاء، وما في ذلك عجب فإن الخط البياني لسير الأمم في التاريخ لا يلزم مستوى واحداً، والله لا يبدل أمن الأمم قلقاً، ولا رخاءها شدة، ولا عافيتها سقماً لأنه راغب في أن يذيق الناس المتاعب ويرميهم بالآلام.. كلا، إنه بر بعباده، يغدق عليهم فضله وستره ويصبحهم ويمسيهم برزقه ومغفرته، وربما كانت سنّة الله في الأولين تخويفهم بالخوارق حتى يراعوا، ورفع الجبال فوق رؤوسهم كي يزعجهم فيستقيموا، ولكن الله لم يرفع الجبال فوقنا في هذا الزمان لكي نتعظ، بل أخرج من أصلابنا فتياناً حملوا السلاح ووجهوه لصدورنا، وتحزموا بالمتفجرات ليفجرونا وأنفسهم طالبين الشهادة والحور العين جزاءً وفاقاً..!! سبحان الله، أقول إن الله لم يرفع الجبال علينا لهذا، بل ترك بيننا كتاباً يقول لنا {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، ولكن هل فطنّا لماذا كان «الجزاء من جنس العمل».؟ لماذا كان آباؤنا الأقربون - تمشياً مع تربيتهم الدينية الأصيلة - نماذج رائعة في التسامح ولم يخرج منهم إرهابي.؟ ونحن نتجرع الآلام باسم الدين والتقرُّب لله!؟ إن ما أصابنا نتيجة طبيعية لاستغلال الدين من قبل بعض المتدينين القاصرين الذين يسيئون إلى الإسلام من حيث ينشدون خدمته..!؟
لقد شاهدت مواطنين عاديين يساقون من قبل من يريد العلو في الأرض والظهور بين الناس باسم الدين، أناس يأخذون الدين شكلاً لا موضوع له، وصورة لا روح فيها.. وهذا اللون من التدين قد يكون مصحوباً بالضعف والبلادة والذهول والغفلة..! وهؤلاء أناس تستخفي أنفسهم وراء أسوار من الصلف والغطرسة، يمقتون ويكرهون كل شيء إلا أنفسهم، وفي سبيل ذلك يبيعون الوطن بأزهد الأثمان، ويثيرون فتناً قد تعصف بالمجتمع بأكمله، والمصيبة أنك قد تجد العقلاء والحكماء في المجتمع يقفون موقف الحياد، إن الحياد في كل معركة بين الخسة والشرف ليس موقفاً مقبولاً، وبسبب صمت المجتمع عن هؤلاء المتدينين القاصرين، الذين قد يدركون رأياً فقهياً ولكنهم يجهلون حتماً رأياً آخر، أو يتجاهلونه لأنه لا يفيد في جلب المريدين والجماهير، وجدت دعواهم وصيحاتهم قبولاً عند صنفين من الناس خطيرين، وصف أولهم العالِم النفسي (فرويد) في تفسيره للسلوك الإجرامي بمختل التوازن النفسي الناتج عن الصراع بين (الأنانية غير العقلانية) Id و(الذات المثالية أو الأخلاقية) Super-ege وبتبسيط هذه النظرية التي ذكرت في كتاب (علم النفس الجنائي) فإنه عندما تتوافق المبادئ الأخلاقية التي تتكون عند الفرد في سن مبكرة نتيجة تعرضه لنواهي وأوامر ومواعظ من شخصيات معتبرة في محيطة «مثل مواعظ التكفير والدعوة للخروج للجهاد .. الخ، التي صدرت من بعض الوعّاظ الآن وفي حقب سابقة».. عندما تتوافق هذه مع الدوافع الفطرية التي قد توجد عند كثير من الناس مثل حب السيطرة والقسوة والقتل والانتقام، بل قد تصل إلى الانتقام من المجتمع بأكمله لأسباب عديدة، تصبح النتيجة من هذا التوافق شكلاً من أشكال الاضطرابات العصبية أو الذهنية أو السلوك المنحرف أو المضاد للمجتمع بدون الشعور بالذنب الناشئ عن سخط الأنا الأعلى (الذات المثالية أو الأخلاقية)، وهؤلاء عادة يكونون القادة في العمل الإجرامي والإرهابي، هم الذين يخططون ويسيطرون على الصنف الثاني.
الصنف الثاني من الذين يتأثرون بالمواعظ الحماسية الهدامة برأيي، ووصفها (فرويد) بأنهم من يعانون من الحاجة الملحة للعقاب لكي يتخلصوا من مشاعر الذنب التي نشأت من اللاشعورية المدمرة الناتجة عن أخطاء وقعوا فيها في حياتهم، وهم يسعون إلى عقاب النفس تكفيراً عن تلك الذنوب، ويبتغون غفران الله لهم تلك الذنوب بعمل يوصلهم للجنة بدون حساب أو عقاب، وهذا برأيي الصنف الذي ينفذ العمليات الخطيرة والانتحارية..
هل نحن بحاجة إلى مثل هذين الصنفين في مجتمعنا يا وعّاظنا الكرام..!؟
هل تساءل هؤلاء عن سر نكبتهم لنا بإخراج مثل هذين الصنفين من شبابنا؟
كم كتاباً ألف من قبلهم في تشريح هذا العوج، والقصور العلمي الذي أنتج لنا أجساداً مفخخة تقتل رجالاً أصحاب تقوى وإيمان حقيقي، وترجو الجنة بعد ذلك؟
كنا بحاجة أن تخرجوا لنا صنفاً آخر من الرجال.. رجال نتطلع إلى ملامحهم الطيبة الطاهرة، حريصين على الصلاة، عشاق المساجد، ذاكرو الله بالغدو والآصال، أصحاب السرائر الصافية، والأيادي السخية، والضمائر المراقبة لربها، المستعدة ليوم الحساب فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ .
إننا بحاجة إلى مراجعة منهجنا الديني، ولا أعنى بتاتاً رجوعاً عن أصل قائم أو فرع ثابت، فهذا والعياذ بالله مقبوح.. هناك فرق بين الرجوع والمراجعة.. إنني أعني بالمراجعة: الحساب العقلي الشديد على مواقفنا من أنفسنا وديننا، وماذا فعلنا، وماذا تركنا، وماذا قدمنا، وماذا أخرنا؟ وكل محاولة للنهوض دون المراجعة الواجبة - قد تكون تكراراً للمأساة. وهذه المراجعة سهلة مادمنا ننطلق من قواعد معصومة، أساسها الكتاب والسنّة.. على أنه لابد من إبعاد العقول الملتاثة عن علم الكتاب والسنّة، ولابد من تنقية منابعنا الثقافية حتى تروّج أقوال الأئمة والعباقرة، وأهل الذِّكر، وتستخفي أقوال المعلولين، فالاستيحاش من الحق أو الاستكبار عليه لا يتركه القدر دون عقاب عاجل أو آجل.. فإنّ حافظ السموات و الأرض لا يترك أصحاب الهوى يفسدونهما كيف شاءوا، بقتل المعصومين كما حدث في الحدود الشمالية بالأمس القريب، فالمحرِّض شريك في الجريمة حتى وإن حسنت نيته وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ، إنّ التدين مع العوج الفكري والنفسي نوع من الخبال تتجاور فيه المتناقضات، وقد تضيع فيه الحقيقة ويبقى الشكل الذي لا وزن له. إن الارتقاءين العقلي والخلقي لمجتمع ما، قد يغطيان القصور لدى بعض الناس، ولكن الارتقاء الجزئي لا يغطي قصور الجماعات ولا يواري سوءاتها.
ألا نعيد النظر في تفكيرنا ووسائلنا؟.
والله من وراء القصد..