شئنا أم أبينا.. الحضارة الغربية وما وصلت إليه من تقدم وإتقان وإشباع لحاجيات الشعوب والأمم في واقعها المادي، نتاج رائع لمقدرة الإنسان، تواصلت واتسعت تلك المقدرة فامتدت من النطاق القومي والعنصري، إلى النطاق العالمي والإنساني.. فكان امتدادها الكوني سمة مميزة بطابع العالمية جعلت من هذا الكون عالماً فسيحاً يضج بروح الآلة واكتشاف المعرفة المبنية على التجربة، فلا تكاد تمر برهة من الزمن إلا وأنت تسمع عن فتح جديد في شتى أصناف ومجالات العلوم النظرية والتطبيقية.. فأصبحت هدفـًا مقصودًا، وغاية محتومة لمن أراد التطور وإن كان هناك في بعض زواياها فراغ من الضمير والأخلاق!! ولا غرابة في ذلك لأنها حضارة نشأت في عالم كوّنه علمها.
ونحن نعيش في خضم هذا العالم المتطور، يجب أن نعرفه معرفة دقيقة وأن نستفيد من كل المنجزات الإنسانية والحضارية، والتجربة التاريخية علمتنا أن الحضارات على مر عصورها وظفت هذه المنجزات لخدمة الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه.
ولنا في رسول الله قدوة حسنة، ففي غزوة الخندق عندما جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يشاورهم في هذا الأمر الجلل، أشار عليه الصحابي سلمان الفارسي بحفر خندق، عندما قال «يا رسول الله، إنا إذا كنّا بأرض فارس وتخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تخندق؟»، فأَعجب رأيُ سلمان وفكره النير النبي , فقام النبي وأصحابه بحفر الخندق، وشاركهم رسول الله العمل بيديه الشريفـتين..
لقد كانت فكرة الخندق متطورةً ومتقدمةً بالنسبة للعرب آنذاك تم نقلها من فكر آخر بواسطة ذلك الصحابي الجليل، إذ لم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم، بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريبًا عنهم، وكانت هذه الخطة مفاجأة في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة أذهلت أعداء الإسلام آنذاك، وتفوقت على خططهم الحربية.
.. يجب أن نعيش حاضرنا منطلقين إلى المستقبل في جميع المجالات، ونتعامل مع الزمن على بصيرة لنتمكن من معرفة العناصر الفاعلة فيه والمؤثرة في تكوينه وتلوينه، فحاجتنا اليوم إلى حكماء تفوق بكثير حاجتنا إلى علماء.. إن مسئوليتنا تجاه هذا الواقع والانفتاح على الآخر مطلب ذاتي لا غنى عنه لتعزيز الانتماء للذات الجماعية، والمحافظة على المكاسب الوطنية، وشد وثاق الارتباط بالأرض. إن من طبيعة المعاصرة ألا نستسلم للحاضر بل نتطلع دائماً إلى المستقبل، بما يجعلنا في الصدارة دائماً.
.. لا بد أن نعيش نوعاً من التركيز الجاد على مستوى الفكر والعمل معاً، وضرورة الانفتاح على ثقافة غيرنا، بما لا يشكل خطراً على ثوابتنا الدينية ولغتنا الخالدة، فالتقدم الذي حققه الغرب في مجال الفكر والثقافة والعلوم والتكنولوجيا وفي مجال السلوك والإدارة ومجال تنظيم وخدمة المجتمع، ينبغي الاستفادة منه ونقله متى ما كنا بحاجة إليه أو دعت الضرورة إلى ذلك بالأثر الجميل، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، خصوصاً وأنّ هذه المنتجات فيها الكثير من القواسم المشتركة بين كافة الشعوب، كونها تضمنت الثقافات والحضارات والديانات ذات الطابع الأممي والعالمي، فهي تجتمع على قيمة الحق والعدل، وعلى أهمية العلم والفكر ولهذا لا يوجد مانع من الاستفادة الكاملة منها بما لا يتعارض، كما أسلفنا، مع ديننا وقيمنا الاجتماعية.. ولعل في ظاهرة تقنية المعلومات التي نعيشها حالياً أكبر مثال وشاهد على ذلك في هذا السياق إذ إن مثلها مثل أي ظاهرة تتصل بالإنسان - ليست حدثاً محايداً خالياً من القيم النابعة من الثقافة الغربية التي أنجبتها - وقد تم نقلها والاستفادة منها في جميع أصقاع العالم حتى صارت الكرة الأرضية قرية كونية واحدة.. ويصدق هذا على المعلومات الأخرى التي يتم نقلها ومعايير انتقائها وكيفية توظيفها.
.. وأكاد أجزم أنه من الأهمية بمكان في هذا الخصوص الاستفادة في تحقيق ثقافة التميز بالجهاز الإداري، لتنبثق من مؤسساته هذه الثقافة لتنعكس كخدمات مميزة للمواطن، لأجل النهوض بالأداء نحو التميز والإبداع والقضاء على مشاكل وهموم وتحديات القطاع العام، والسعي لخلق فعالية الإنتاجية لدى موظف القطاع العام، من خلال حُبّه وتمسّكه بالوظيفة العامة فعلياً لا شكلياً، وخلق البيئة المناسبة لسلامة التنفيذ وزيادة الاهتمام بالمراجعين ومتلقي الخدمة والابتسامة في وجوههم، لكي تكون ثقافة التميّز والسعي إليها سلوكاً يومياً معتاداً، فالتخطيط الإستراتيجي المدروس والخطط التنفيذية الفاعلة وفتح المجال واسعاً أمام المواهب الخلاّقة ضرورة في حياة عملية غنية ونظام إداري متطور. ليعزز ذلك روحية العطاء لدى الموظفين واحترامهم للمراجعين ونبذ الفساد وهدر الوقت، والاتجاه نحو ثقافة التميز والإبداع في العمل العام من خلال تطبيق الشفافية والمساءلة والتأهيل وتوطين التكنولوجيا الحديثة وتطبيق الحكومة الإلكترونية، وفسح المجال وتشجيع الكفاءات الوطنية على الاكتشاف والإبداع.. فحينما يتوفر ذلك بالتأكيد، نستطيع أن نقبض على أسرار التكنولوجيا ونبدع في قيادة التنمية وتطوير أدوات المؤسسات، عبر النسق العلمي والحضاري، والتفاعل الخلاق مع هذه التقنية المستند إلى المعرفة والعلم بكل أسرارها، وتوظيفها في خدمة الوطن والمواطن، والله من وراء القصد،،،