الفساد آفة كالسوس تنخر في جذور المجتمع، وحين يسقط أمن واستقرار مجتمع فإن الكل يسقط بما فيه الفاسدون، والحق أنه وحين يصبح الفساد عرض يومي معتاد يصبح الحديث عنه ترفاً، والصورة قطار يسير بأقصى سرعته في منحدر بلا مكابح بانتظار رحمة إلهية.
نحن نطالع في أخبار الصحف ووسائل الإعلام الحديثة يكاد يكون بشكل يومي ودائم أخباراً وقصصاً تتحدث عن تجاوزات، ونعيش ونلمس ما هو أكثر منها وضوحاً وصدقاً بحكم المعايشة والتجربة ومع هذا لم يظهر حتى اليوم رغم وجود هيئات رقابية ومؤسسات خصصت للنزاهة ومحاربة الفساد ما يدل على أننا استشعرنا حقيقة شر هذه السوسة وخطورة أذاها، ذلك أننا ما زلنا نحاول علاج مشاكلنا وما يعترض مسار تقدمنا بنفس الأدوات والآليات التي تتجانس وتتلاءم مع دورة الحركة المعتادة والمألوفة، فنظم الإجراءات والعقوبات الإدارية ما زال في فلسفته كما هو دون أن يتجاوز ويتقدّم هذا المألوف والمعتاد ليكون أكثر تقدماً وسرعة منه، ثم إن الاكتفاء بملاحقة الظاهر منه بإجراءات هي في العادة لا تتساوى مع حجم الضرر إضافة إلى استمرار العمل بنفس الفهم والمفاهيم دون ابتكار أو إبداع في بحث وتقصي الأسباب المنشئة أو بمعنى آخر الثغرات التي ينفذ منها هذا السوس وينخر.
إننا في حاجة حقيقية لرقابة شعبية، فالمستفيد من الخدمة هو أحرص الناس على جودتها وسلامتها، وإذا كانت وسائل الإعلام تمطرنا يومياً بقصص عن ما يسمى تجاوزات وما هي تجاوزات بقدر ما هي ربما أكثر من ذلك بحق الوطن وإنسانه من قبل نقص أو اختفاء حس المسئولية لموظفين في أجهزة حكومية خصصت لخدمة الوطن والإنسان فإن الأخبار أو الإعلام عن حدث يتكرر يصبح مملاً ومعتاداً ومألوفاً، والاعتياد والألفة لأمر ما يحوله إلى أمر طبيعي، ولا يمكن تغيير ما هو طبيعي إلا بعمل غير طبيعي وهو ما لم يحدث ولن يحدث حسب ظني طالما أن الرؤية غير قادرة على تجاوز الواقع، وبالتالي كيف تصنع واقع آخر أفضل وهي غير قادرة على تجاوز واقعها الموبوء، أقول موبوء لأن الفساد في القيم والأخلاق وباء خطر يحتاج علاجه لقيم وأخلاق تعلو عليه لترتقي فوقه.
حين يتجاوز أحد منسوبي جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الشرطة أو جهاز السير أو البلدية ثم تكون إجراءات عقوبته إدارية فإن هذه العقوبة لا تتناسب والأذى في حق الوطن والمجتمع والإنسان، ما يجعل التجاوز والخطأ بحق المواطن ليس أكثر من لفت نظر يطوى بالأدراج أو نقل تأديبي لمعاقبة جزء آخر من الوطن بعاهة عجزت النظم والإجراءات عن معالجته، ولا يمكن تغيير هذه الإجراءات وتقوية عقوبتها لتكون رادعة وقادرة على الحد وتقليص التجاوزات ما لم نعد الفهم في الضرر والخطر الذي يرتد على الجميع بما فيه المعنيون بالأمر، فالاستبداد والصفاقة في السلوك والتعامل بفوقية وتعال ليست إلا علامة تخلف وعنجهية غير مسئولة ومع هذا يكاد يكون هذا هو الطابع السائد بين الفرد المسئول والفرد الإنسان وكأنه بلا حصانة حقوقية تكفلها النظم والتشريعات التي تغيب وتذوب في دهاليز المراجعة والمتابعة.
إن من يعتقد أن الفساد محصور بسرقة المال العام مخطئ، ذلك أن سرقة المال العام نتيجة لفساد وليست هي الفساد، الفساد يكون في القيم والأخلاق والذمم، تلك التي تبلورها وترقيها سياسات تعليمية وثقافية وفكرية وإعلامية واقتصادية وهي التي تحتاج فعلاً لمراجعة وتجديد في الفهم والرؤية، فنحن حقيقة بحاجة فعليه للانتقال من الترسب الوجدان البدائي أو البدوي إلى وجدان إنساني يتلاقى وروح الخلق الإسلامي والتنوير العصري المضيء، ولن نستطيع ذلك ما لم نقر ونعترف أولاً بحاجتنا الماسة لذلك بشكل جماعي أو مؤسسي تنطلق من بعدها الرؤية في مساحة المعتاد والمألوف لغربلته وتصفيته وبحث خلفيات كل سلوك دون تحزّب أو تعصّب أو تقديس أو حتى رهبة أو توجس، نحن بحاجة لشجاعة حقيقية راغبة في التغيّر للأفضل، هذا التغيّر في الفكر والوعي هو الأرضية القوية الصلبة لمحاربة الفساد، فساد الخلق والسلوك مصيبة متى حلّت في مجتمع صرعته وإن ببطء.