لم نكن بحاجة إلى مثل هذه المقارنة والموازنة بين الشريعة الإسلامية ـ التي هي من عند الله وهي دين نتعبد الله به - وبين القانون الوضعي ـ الذي هو من صنع البشر وابتداعهم وتتحكم فيه أهواءهم وشهواتهم ـ لولا انحطاط فئام من أبناء الأمة، وتخلفهم عن ركب الشريعة الإسلامية، وتنكبهم الصراط المستقيم، فإذا بهم يدعون الأمة بأسرها لمتابعة أعدائها في سلوكهم وسياساتهم وتشريعاتهم، وهنا أتحدث عن جهودهم فيما يخص النظم والقوانين، فإذا بالتشريع الإسلامي الإلهي يتبدل وينحسر في أكثر البلاد الإسلامية ويحل محله القانون الوضعي وقد جاء خبر ذلك والتحذير منه في قول الرسول - صلى الله عليه وسلَّم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن!» (أخرجه البخاري).
فإذا بأول تغيير يطرأ على الأمة في تاريخها بل الوحيد، والذي يسعى لتبديل الشريعة الإسلامية بقانون من وضع البشر هو قانون التتار المعروف بـ «الياسق» الذي وضعه «جنكيز خان» وقد اقتبسه من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والإسلام وبعض آرائه وأهوائه، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله.
ثم جاءت الدولة العثمانية التي حملت راية الإسلام، وقامت بتطبيقه حتى ضعفت وكثرت أمراضها وعللها، وزين لها أعداؤها الذين يدعون الإصلاح والحرص على نهوضها من كبوتها، فدعوها للأخذ بالقوانين الوضعية الغربية والاستفادة منها، فإذا بأول تقنين وضعي في الدولة العثمانية يصدر مستمدا أحكامه من مصادر أجنبية، وكان ذلك عام 1840م وهو قانون العقوبات العثماني الذي نقل الكثير من القانون الجنائي الفرنسي، ثم تتابعت بعد ذلك صدور القوانين الوضعية في الدولة العثمانية التي أصابها الوهن حتى سميت « بالرجل المريض.
وفي مصر كان أول من أدخل القانون الوضعي فيها هو «نابليون بونابرت» عندما احتل مصر في حملته العسكرية والثقافية الاستعمارية، والتي يسميها بعض المنهزمين من أبناء الأمة ببداية عصر النهضة وهو عام 1798م وقد أنشأ محكمة سماها «محكمة القضايا» ثم تتابعت القوانين لإقصاء الشريعة الإسلامية.
وأما في العراق فكان أول من فكر بتغيير وتبديل التشريع الإسلامي إلى القوانين الوضعية هو: «محمد زكي» وزير العدل العراقي في عام 1933م، وظل فكره حتى جاء عام 1936م فكلفت الحكومة العراقية الدكتور عبد الرزاق السنهوري لوضع الأسس اللازمة للقانون المدني العراقي الوضعي، ثم تتابعت القوانين بعد ذلك.
وفي لبنان: كانت الأحكام كلها شرعية تابعة للخلافة العثمانية حتى وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي عام 1926م وكان أول قانون وضعي صدر منهم عام 1930م ثم تتابعت القوانين وأقصيت الشريعة.
وفي سوريا: كان القانون الوحيد الذي صدر في وقت الانتداب الفرنسي هو قانون الملكية بسبب عدم استطاعة الانتداب الفرنسي لشدة معارضة الشعب السوري المسلم، وبعد جلاء الانتداب الفرنسي عام 1946م استطاعت الحكومات الوطنية العلمانية أن تفعل ما لم يستطعه الانتداب الفرنسي بتغيير الشرعية وإبدالها بالقوانين الوضعية.
وفي الأردن صدر عام 1951م أول قانون للعقوبات وأصول المحاكمات وكان مقتبس من القانون السوري واللبناني اللذين بدورهما معتمدان على القانون الفرنسي.
ومع هذا الواقع المؤلم في هذا العصر لكثير من الدول الإسلامية بل الأعم الأغلب وذلك بتنحية الشريعة الإسلامية واستبدالها بالقوانين الوضعية، اضطررنا للمقارنة والموازنة وليس ذلك ـ معاذ الله ـ تسوية بينهما ولا توقيرا للقانون الوضعي بل المقصود البيان والنصح وبيان عوار القانون الوضعي اعتقاداً وعملاً، ومع هذا الواقع المؤلم للعالم الإسلامي نجد أننا في المملكة العربية السعودية حكاما ومحكومين ننعم بتحكيم الشريعة الإسلامية في كافة أحكامنا ومحاكمنا وأنظمتنا ولا مزاحمة للشريعة الإسلامية، كما نص النظام الأساسي للحكم في مادته السابعة: يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله، وسنة رسوله. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة.. فلله الحمد والمنة.
عمر بن عبدالله المشاري السعدون - عضو الجمعية الفقهية السعودية