الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تؤكد عدد من الداعيات والأكاديميات المتخصصات في العلوم الشرعية أن الأم مربية الأجيال، وصانعة الأبطال، بصلاحها تصلح الأمة، وتتصدر قيادة إصلاح الأمم الأخرى، وبفسادها تفسد كل شيء، ويبقى المجتمع في آخر الركب. وأن غرس القيم والمبادئ الإسلامية لدى الفتيات والنساء والأمهات يعزز روح الانتماء للوطن وتماسك اللحمة الوطنية، وإلى ضرورة تفعيل رسالة الأسرة باعتبارها ركيزة الأمن الفكري في المجتمع المسلم في تحصين الناشئة من أفكار الغلو والتطرف، خصوصاً أن البرامج الهادفة الموجهة للأسرة والنساء في وسائل الإعلام يغيب عنها منظور الأمن الفكري، وجلها ترفيهي أو طبي أو غذائي أو فتاوى جماعية وأسرية.
وتضيف الداعيات والأكاديميات في الجزء الثاني من هذا التحقيق حول ترسيخ الأمن الفكري في الأسرة من أن الغلو والتشدد والتطرف الفكري حالة مرضية يمكن أن يمر بها أحد أفراد الأسرة، والمرأة قادرة على اكتشافها مبكراً ومعالجتها متى امتلكت العلم الشرعي.
صمام الأمان
وتوضح الدكتورة هدى بنت دليجان الدليجان أستاذة الدراسات القرآنية بجامعة الملك فيصل بالأحساء، أن من خصائص الرسالة الخاتمة، عنايتها بالإنسان واحتياجاته، وترتيبها الأحكام الشرعية بحسب الضرورات الخمس التي تحفظ على الإنسان دينه، ونفسه، وعقله، وعرضه، وماله، فقد أكمل الله-جل جلاله-دين الإسلام، وارتضاه للبشرية إلى قيام الساعة، قال - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3) سورة المائدة
وتشير الدكتورة هدى الدليجان إلى أنه امتداداً لهذه المكانة الكريمة للإنسان والعناية به، كانت العناية بالمرأة المسلمة، فقد كلفها الله-تعالى-بتكاليف خاصة مناسبة لأنوثتها حفاظاً على فطرتها، وجعل الأمن الحقيقي في تطبيق العبودية الحقة لله وحده، قال-تعالى-:
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام
وقد أمر المولى الكريم في كتابه العزيز بوضع حدود للأنظمة في المجتمع لضمان سلامة أفراده، وتوفير كرامتهم، وتحقيق الأمان لهم، وقد رفعت هذه البلاد الكريمة لواء تطبيق الشريعة الإسلامية لتحقيق الأمن في المجتمع، والحفاظ على أفراده، وتهيئة مطالب الحياة الكريمة؛ لننعم بالأمن والأمان.
وأن السبيل الوحيد لينال المجتمع الأمن هو في اتباع أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما قامت عليه هذه البلاد المباركة من استنباط التشريعات والأنظمة من الكتاب والسنة.
وتضيف الدكتورة هدى الدليجان أن المرأة الصالحة فقهت تلك الحكمة الربانية في العمل ونفع المجتمع، والغاية الجميلة التي تورثها العزة والكرامة في الدنيا والآخرة، فكانت من السباقين إلى مضماره، والمتنافسين في حسن أدائه، قال-تعالى-:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل. مشيرة إلى أن السياق القرآني الكريم يجمع في هذه الآية بين العمل الصالح المتجدد (ومن يعمل من الصالحات) ولا يغفل عن تحقيق مبدأ الشراكة بين الجنسين (من ذكر أو أنثى) ثم يعطف عليه (وهو مؤمن) في وصف جميل لثبات الإيمان واستقرار أركانه، الذي هو العبادة الصحيحة التي يتوجه بها القلب واللسان والجوارح إلى البارئ الكريم، وهو نفع الإنسان لنفسه بإنقاذها من ظلمات الجهل إلى نور الحق والهداية والإيمان. وهذا هو صمام الأمان الحقيقي في المجتمع.
وأكدت الدكتورة الدليجان أن واجب الداعيات الكريمات، والباحثات الأكاديميات في كل التخصصات، الالتفات إلى أهمية تربية النفوس على القيام بهذا الدين، والبحث عن معالم هذا الدين، وإشعال تلك الجذوة المتقدة في القلوب الصافية من الأبناء في البيوت والمدارس والجامعات، حتى تستجيب لنداء ربها بحب وحنان وحكمة وإيمان، ومناصحتهم عند الوقوع في خطأ ببلاغة وبيان، والعطف عليهم ليكونوا في أمان، والحذر أن يكون هذا الجيل لقمة سائغة تتلقفهم مصائد الأفكار، وأشرار الليل والنهار ، المتوافرون في أجهزتهم الذكية، وفي كل مكان وزمان. من أجل هذا تشدد الدكتورة الدليجان على المرأة المسلمة أن تكون واعية وعياً حقيقياً بحقيقة التدين الصحيح الذي يكون مبنياً على هدى من الكتاب والسنة، ومنهج العلماء الأثبات، وأن تجتهد في إزالة كل ما يعلق بأبنائها وطالباتها ومجتمعها من أدران الانحرافات الفكرية والاجتماعية. فالأمان الصريح الذي يجدر بكل أم ومربية وداعية الاهتمام به، وإزالة كل ما يعترضه، هو أمان المجتمع من عوائق وعلائق وتحديات، ولابد من عرض هذا على الكتاب والسنة؛ لتحقيق صمام الأمان، ولصد ما تواجهه النفوس الطرية من عدو ماكر خفي، له مكائد متتالية، سواء كانت سراً أم جهراً، فغايته أن ينعدم الأمان الفكري، وتحل الويلات المهلكات، لا سمح الله.
وتوضح الدكتورة الدليجان أنه ولو أبصرت الأمهات والداعيات والباحثات كل واحدة في مجالها ومهامها الكبرى المنوطة بها لتحقق صمام الأمان في المجتمع بمتابعة تصرفات من حولها، والتأكيد على التربية بالاستسلام لأمر الله تعظيماً ومحبة وخوفاً ورجاء وتوكلاً وغير ذلك من أنواع العبادات، والتوجيه بالإحسان إلى الآخرين، والتفوق والإتقان في العلم والعمل، وتنمية حب الوطن والعمل لنفعه، وبذل الوقت في كل نافع ومفيد، وتعليم هذا الجيل الجديد الإحسان في كل شيء؛ ليكون صمام أمان للمجتمع، بإذن الله، فسيثمر هذا بفضل الله أماناً شاملاً عاماً للوطن وأهله وأرضه وسمائه. فنسأل الله إيماناً لا يشوبه شك، وأماناً كله إحسان.
بناء الأمن الفكري
وعن دور الأسرة في بناء الأمن الفكري تقول الدكتورة منيرة بنت محمد الحديثي، أستاذة الفقه وأصوله المساعد بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن: أن الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع الكبير، والأساس الاجتماعي في بناء الشخصيات؛ لأنها تتحمل العبء الأكبر في توفير الأمن الفكري لأفرادها، وتحصينهم ضد كل ما يمس ثوابتهم، ولتحقيق ذلك لابد من تأهيل الوالدين أولاً لتحمل مسؤولية هذا الأمر؛ لأنهم المؤثر الأول في المنهج والسلوك، وفاقد الشيء لا يعطيه, فيكون مفهوم الأمن الفكري واضحاً في أذهانهم، ويعني تأمين الفكر ووقاية المبادئ والمعتقدات والثوابت والمحافظة عليها من كافة المؤثرات السلبية والأفكار المنحرفة, ولابد أن تدرك الأسرة أن تربية أولادها وتنشئتهم التنشئة الصالحة من أولى مهامها, وأن نجاحها يكمن في جعل أفرادها صالحين متوازنين في سلوكهم ومنهجهم, وأن تدرك الأسرة أن من أخطر العوامل التي تسهم في اعتناق الأفكار الوافدة والنظريات الهدامة هو الفراغ النفسي، والخواء الروحي الذي يجعل الأبناء يبحثون عن إشباع هذه المتطلبات بطرق قد يكون فيها هلاكهم, فيكون أول اهتمامات الأسرة إشباع الحاجات الجسمية والنفسية والدينية والاجتماعية لأبنائها، وعدم استخدام الأساليب الخاطئة في التربية والتي تعتمد على التخويف والإذلال والتسلط والطاعة العمياء. وأعلى جانب في توفير الأمن الفكري هو صيانة جانب الاعتقاد الذي يتمثل في الإيمان بالله،-عز وجل-، وحبه ومراقبته في نفوسهم، وترويضهم على أن الله-عز وجل-يراهم، وتوضيح المنهج الوسط المعتدل وتحصين العقول من غوائل الانحرافات ومزالق الغلو, والتأكيد على مبدأ الوسطية والاعتدال لقوله-تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسٌِ} (143) سورة البقرة، فيساهمون في نشر مبادئه السامية، وغرس قيمه.
وتؤكد الدكتورة الحديثي أن من أبرز ما يؤصل الأمن الفكري لهم هو الاهتمام بالعقول التي هي مناط التكليف، وحثهم على التفكر والتبصر في الأمور التي تعرض لهم، وتربيتهم على التفكير الصحيح القادر على التمييز، فلا يسلموا عقولهم وإرادتهم لصاحب شبهة أو دعوة مضللة، واختيار وتقديم النماذج السلوكية المقبولة في المعيار الشرعي، والتخطيط الواعي المنظم والبرامج الهادفة والأنشطة المناسبة ومتابعة الأقران وسلوكياتهم، ومدى تأثيرهم على الأبناء، واستغلال تقنيات العصر في تعزيز الكثير من السلوكيات الإيجابية التي تريد الأسرة تنشئة أبنائها عليها، وبيان خطر مزالق المواقع الهدامة التي تفسد الجيل، وتركز على زعزعة الثوابت لديه؛ لأن زعزعة الثوابت كسر يصعب جبره، مشيرة إلى أن من أهم وسائل تعزيز الأمن الفكري غرس القيم والمبادئ الإنسانية التي تقوي الانتماء للوطن، وتزيد تماسك اللحمة الوطنية، وأهمية السلطة وضرورة وجودها، لأنها تمثل الأمن والاستقرار والرخاء للمجتمع, فالأسرة التي تعرض قضايا المجتمع بسوداوية, وتنظر إلى الواقع من زاوية حادة، فلا ترى إلا السلبيات فتضخمها أمام الناشئة, تزرع بهذا السلوك بذور العنف والسخط، وتنمي روح التناحر والبغضاء, فلا يرى الأبناء إلا التقصير الذي يدفعهم إلى النقمة، فيتحولون إلى أشخاص يسهل قيادهم والتأثير فيهم، وتوجيهم لتقويض مكتسبات الأمة. فتعزيز الأمن الفكري منظومة واسعة تبدأ من الأسرة، وتتأصل باشتراك مؤسسات المجتمع كافة.
هاجس المجتمعات
أما الدكتورة هيا القطامي، الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود، فأكدت أن الأمن الفكري يشكل هاجساً لكل مجتمع، لأنه ركيزة استقراره، وأساس أمانه، فالأمة إذا أصيبت في فكرها تزعزت عقيدتها، واهتزت قيمها، وفقدت هويتها ووجودها في الحياة، مشددة على أهمية العمل على نشر مفاهيم الوسطية والاعتدال التي جاء بها الإسلام وغرسها في نفوس أبنائه.
وشددت الدكتورة القطامي الحرص أشد الحرص على حماية هذا الأمن من عبث العابثين، وإفساد المفسدين الذين يحاولون دس الأفكار الضالة والتوجهات المنحرفة بين أبناء المجتمع، والتعاون في ذلك بين كل محاضن ومؤسسات الدولة التربوية، ومن أبرز وأهم هذه المحاضن التي تعد المحضن الطبيعي للناشئة وأساس صلاح الفرد وفساده، هي الأسرة، فهي المنبع الذي يغذي الطفل بالعقيدة الصحيحة، والفكر المعتدل من الكتاب والسنة، وهي خط الدفاع الأول الذي يقف سداً منيعاً في وجه الأشرار، فالأبوان عليهما مسؤولية عظيمة في تنشئة الأبناء، وتربيتهم التربية الصالحة المستقيمة التي يستطيعون من خلالها بناء فكر سليم، يحميهم من الانزلاق في الشبهات، واتباع غير الحق.
وقالت الدكتورة القطامي: إن المسؤولية أكبر على الأم؛ لأنها ألصق بالأبناء، وهي محور وعنصر أساس في إكساب الأبناء السلوك القويم، وتحصينهم ضد الأفكار الضالة والتطرف والغلو، كما أنها قادرة على اكتشاف بوادر ظهور هذه الأفكار والتوجهات، ومن ثم معالجتها قبل استفحالها، ومن أجل أهمية دورها، فإن المجتمع مطالب بإعطائها الاهتمام والرعاية، وتأهيلها فكرياً وعقدياً للقيام بمهمتها على أكمل وجه، وذلك بعمل برامج وأنشطة منضبطة تسير وفق خطط مدروسة، ومعالم واضحة، تكسبها المعارف والمهارات لتستفيد منها، ومن ثم تنقلها لأبنائها، ومن هذه البرامج، كما تذكر الدكتورة القطامي:
- عقد المحاضرات، والندوات، واللقاءات لتعليمها العقيدة الصحيحة، والفهم الصحيح الشامل للإسلام، ووسطيته، واعتداله، والنظرة إلى أوامره نظرة شمولية، فالأم إذا أدركت ذلك رزقها الله نور البصيرة، ورشد العقل، وكانت قادرة على تمييز الحق من الباطل، والثبات عليه.
- عدم الاقتصار على إعطائها المعارف والمعلومات فقط، بل لابد أن يصاحب ذلك إقامة دورات تدريبية تطبيقية، وورش عمل لإكسابها مهارات في كيفية التعامل مع الأبناء، والقدرة على الحوار، والنقاش، والإقناع، والتأثير.
- إرشادها وتدريبها على اتباع الأساليب الصحيحة في معالجة الانحرافات الفكرية بعد وقوعها لدى الأبناء، وعدم غلبة العاطفة، واتباع التدرج في المعالجة من الحوار الصريح، وتقبل الأسئلة أياً كانت نوعيتها وغرابتها، فإن عجزت دفعت بهم إلى أهل العلم والرأي؛ لمناقشتهم ومناصحتهم.
- المساهمة في تقديم وسائل لتعزيز استقرار الأسرة، وتذليل معوقات بناء الأمن الفكري لدى الأبناء، سواء كانت معوقات اجتماعية، أو ثقافية، أو اقتصادية.
- توعية المرأة بضرورة الاهتمام بأسرتها، والمحافظة على ترابطها، وتحمل المسؤولية، وعدم الانشغال بسفائف الأمور، مما يؤدي إلى تولي مهمة التربية من ليس أهلاً لها، كالخدم، أو الصحبة السيئة، أو وسائل الإعلام المنحرفة.
- ضرورة ربط جميع البرامج الموجهة إلى الأسرة بأهمية الأمن الفكري، فإذا وجد الأمن الفكري وجد أمن الأرواح والأعراض والدماء، وأمن الغذاء والصحة، فهو الأصل، وغيره فروع منه، فبوجوده توجد، وبعدمه تنعدم.
- دعوة العلماء والمفكرين والمربين والتربويين إلى الكتابة والتأليف في تعزيز الأمن الفكري، وكيفية تحصين الأبناء من هذه الأفكار نظرياً وتطبيقياً، ليكون مرجعاً للأسرة ترجع إليه وتسترشد بما فيه من توجيهات.
- حث وسائل الإعلام لأداء مهمتها والقيام برسالتها عن طريق إنتاج البرامج الهادفة والجذابة لنشر الوسطية، والاعتدال، والبعد عن التطرف الديني والأفكار الفاسدة والتوجهات المنحرفة.
- ابتكار مشروعات وأفكار بناءة لشغل أوقات فراغ الأبناء بما يفيدهم، ويعود عليهم وعلى وطنهم بالنفع، فالفراغ، وسوء التربية يؤديان إلى ظهور الانحرافات الفكرية والسلوكيات المنافية للفطرة السوية.