فيصل خالد الخديدي
استلقى على أريكته المهترئة بين لوحاته التي يعشق روائحها وألوانها, ويعيش لها وبها, كانت ليلته صاخبة امتد صخبها حتى الفجر، وهو الوقت الكافي لصرف كل ما تبقى في حوزته من مال تحصّل عليه دفعة من مسوّق أعماله بعد طول مماطلة دامت لشهور، تردد فيها عليه عشرات، بل مئات المرات بين وعود وتسويف, ولم يكن المبلغ كبيراً يستحق كل هذا التسويف من قِبل المسوّق المليوني، ولكنه بالنسبة للفنان مصدر دخل مؤقتاً يكفي لسداد متأخرات إيجار الشقة ومديونية صاحب المتجر الذي تراكمت مبالغ مشتريات طعامه وطعام مجموعة الطيور التي كان يعولها الفنان لسنوات، لأنه يرى أنها مصدر جمال وكبد رطبة تستحق العناية ولو على حساب رغيف عيشه ومتعة لونه, وما تبقى من المبلغ أغدق به على نفسه وصديقيه في وجبة عشاء فاخرة وسهرة امتد ضحكها للفجر وتبقى له بعد ليلته جسده المنهك, وهموم إنجاز متطلبات المشروع القادم المطلوب تسليمها خلال أيام، فهو لم يعد يستمتع بإنتاجه الفني كما كان سابقاً، لأن العقد الاحتكاري الذي أبرمه مع المسوّق المحتكر لأعماله جعل منه ترساً في عجلة إنتاج لا تعترف بالمشاعر والأحاسيس ولا الفكر والمزاجية الفنية له - والتي تُعد جميعها بنية أي عمل فني صادق - وإنما تطالب بمستوى إنتاج مرتفع ولو كان باهتاً من غير روح ولا أحساس، ليضمن المسوّق الانتهاء من أكثر المشاريع التزيينية والتجميلية لمؤسسات وشركات وفنادق ومنازل التزم معها بعقود وقتية لا يمكن التأخير عن مواعيدها، وإلا سيُحرم الفنان من فتات مبالغ العقد, كما أن الفنان ملتزم بإنجاز عدد من الأعمال للمزاد الذي سيُنظم الشهر القادم حتى لو كان مزاداً وهمياً وفاشلاً مسبقاً، إلا أن التزامه بعقد الاحتكار يجبره على المشاركة بأكثر من عمل جديد, والمعرض السنوي للشركة ليس ببعيد، ولا بد من تأثيث جناحه بأعمال ذات أحجام حددها المسوّق وألوان تناسب موضة السنة مع أن أعمال العام الماضي لا تزال تقبع في المستودعات بالرغم من أنها حظيت بعلامة مُباع وقت المعرض، ولكنها أساليب التسويق التي يراها المسوّق الماهر في كل شيء إلا الفن والتعامل الصادق والإنساني..
طال صمت الفنان وسكونه على أريكته، وفجأة قام نافضاً جميع هموم الماديات والصنعة والحرفة التي أوقع نفسه فيها وهمس: لن أكون كما يريدون لي أن أكون.. لن أكون صفراً في أرقامهم.. ولا ترساً بالياً في عجلة مادياتهم.. سأعود للحياة بفن وأعيد الحياة لفني, سأعود لألواني وروح أعمالي سأقضي ما تبقى لي من حياة بين لون وفن صادق ولن أسمح لأحد اغتيال لوني وروح أعمالي.. مزقَ عقد الاحتكار الذي شارف على الانتهاء متنازلاً عما تبقى له من مستحقات، واشترى حريته وفنه وعاد لطيوره في المنزل وأطلقها لتنشد حريتها، وحلّقت حوله كثيراً، ثم انطلقت بحرية داخل أعماله نابضة بالحياة والحرية في ألوانه.