وولفجانج إيشنجر - أدريان أوروتز:
تُرى ما هو التهديد الناشئ الذي يفتقده العالم الآن؟ لا شك أن هذا السؤال، بعد عام مروع حقاً للسلام والأمن الدوليين، يكتسب قدراً أكبر من الأهمية بالنسبة للزعماء والمحللين ووسائل الإعلام المجتمعة هذا الأسبوع في مؤتمر الأمن الحادي والخمسين في ميونيخ.
قبل عام واحد، كانت الحرب في سوريا والأزمة في أوكرانيا من التحديات التي شغلت المجتمع الدولي. ولكن العديد من المشاركين في مؤتمر الأمن في ميونيخ العام الماضي من المرجح أن يعترفوا الآن بأنهم أخطأوا في تقدير الوزن الحقيقي لهذه الأحداث - ناهيك عمّا قد يليها.
بعد بضعة أشهر فقط، أدَّى التصعيد السريع والتوسع الإقليمي للأزمتين، فضلاً عن التطورات في أماكن أخرى من العالم، إلى حمل العديد من المراقبين على إعلان عام 2014 نذيراً ببداية حقبة جديدة أقل سلمية وأكثر فوضوية في العلاقات الدولية.
وقد كشف العام الماضي عن العديد من العيوب ونقاط التآكل في هياكل الأمن الجماعي القائمة. والواقع أن مصطلحات، مثل «التفسخ الأعظم» الذي صاغه الصحافي روجر كوهين في خريف عام 2014، يتردد صداها بعيداً لأنّها تصيب صميم الشعور الحالي بالعجز، وفقدان السيطرة، وعدم القدرة على التنبؤ بالأزمة التي قد تأتي لاحقاً أو العجز عن فهمها. وعلى حد تعبير خافيير سولانا مؤخراً فإننا «كنا نعيش في وهم . فقد تصور العالم لسنوات أن الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى آخر متعدد الأقطاب من شأنه أن يكون سلمياً ومنظماً وثابتا .. لكن كم كنا مخطئين».
وقد تعايش هذا الوهم بسعادة مع الافتقار إلى الخيال. وفي حين قد يبدو أنه من الكياسة أن نميز بين الجانب «الصحيح» والجانب «الخطأ» من التاريخ، أو أن ننتقد استخدام أساليب القرن التاسع عشر في القرن الحادي والعشرين، فإنَّ مثل هذه الحجج لا تعدو كونها أدوات بلاغية. فهي في أفضل تقدير غير مؤذية؛ وهي في أسوأ تقدير تحجب التعقيدات التي ينطوي عليها المشهد الأمني اليوم والتي يتعين علينا أن نفهمها ونعالجها.
فبادئ ذي بدء، عادت الحرب إلى أوروبا. وأصبحت المبادئ الأساسية التي تحكم أمن عموم أوروبا جزءاً من الحطام، وربما أيضاً التقدم الذي تحقق في العلاقات بين روسيا والغرب منذ نهاية الحرب الباردة. وعلاوة على ذلك، يبدو أن العالم العربي، الذي أصبح أكثر عنفاً وأقل استقراراً مما كان عليه طيلة عقود عديدة، يتجه نحو المزيد من التفتت في الأرجح، في حين أصبحت الجماعات الجهادية المتطرفة، التي تشحن كل منها الأخرى وتتنافس فيما بينها، توجه غضبها بشكل متزايد نحو الغرب مرة أخرى. وفي آسيا ومنطقة المحيط الهادئ يظل الاستقرار هشاً حتى رغم تجنب أي حوادث كبيرة هناك.
ومن المؤسف أن الشقوق التي تكشفت على مدى الأشهر القليلة الماضية من المرجح أن تزداد اتساعا، مع تزايد حدة الصراعات والمنافسة السياسية بين القوى الرئيسية في العالم. بل وربما ننظر إلى عام 2014 بعد عشر سنوات باعتباره مقدمة أو تمهيدا. ولكن لأي شيء؟ فحتى في حين يتعرض النظام الدولي والترتيبات الإقليمية للاختبار على نحو متزايد، لا يزال من غير الواضح من قد يكون قادراً على - أو حتى راغباً في - دعم السلام والاستقرار.
لا شك أن المخاوف من تخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي العالمي مبالغ فيها. لكن على أقل تقدير، كان تركيز الرئيس باراك أوباما المعلَن على «بناء الأمة في الداخل» سبباً في خلق تصور مفاده أن أمريكا تنسحب، وهو أمر يقلق العديد من الحلفاء.
وفي أوروبا من ناحية أخرى، لا تزال العديد من البلدان تحاول التغلب على تأثير الأزمة المالية والاقتصادية التي اندلعت في عام 2008، فضلاً عن الشلل السياسي المحلي، وصعود التيار المتشكك في أوروبا. ويبدو أن دور أوروبا العالمي، برغم كل إمكاناتها، لن تتضح معالمه بشكل ملموس في أي وقت قريب.
على مدار العام الماضي، ناقشت ألمانيا ما إذا كان من الواجب عليها أن تضطلع بدور دولي أكثر نشاطا، ولكن الرأي العام الألماني لا يتكيف إلا بشكل تدريجي مع التوقعات الجديدة. ورغم أن بعض الدراسات تشير إلى أن ثقافة المقاومة الألمانية ليست راسخة إلى الحد الذي يتصوره كثيرون، فإنَّ استطلاعاً جديداً للرأي أجري لصالح تقرير ميونيخ الأمني وجد أن 34 في المئة فقط من الألمان يعتقدون أن بلادهم ينبغي لها أن تكون أكثر مشاركة في الأزمات الدولية. وتظل أغلبية كبيرة من الألمان على تشككها في اتخاذ موقف عالمي أكثر نشاطا، وهو ما يشير إلى أن أي محاولة لتولي دور قيادي دولي تظل بعيدة في الأفق.
بطبيعة الحال، لا نستطيع أن نعزو كل انهيار للنظام إلى سياسات محلية، أو اعتبارات اقتصادية، أو تحولات في علاقات القوى الكبرى. الواقع أن أعداد الجهات الفاعلة والمفسدين المحتملين على الساحة العالمية ارتفعت إلى عنان السماء، وهو ما من شأنه أن يصيب قدرة الحكومات على حل المشاكل بمفردها أو بالتنسيق فيما بينها بالمزيد من الضعف.
ولكن الأنظمة المنهارة تشكل سبباً ونتيجة لعزوف متزايد من قِبَل ولاتها التقليديين والمحتملين. ومع توقف الزعماء عن التصرف على النحو الذي تعودوا عليه، أو تقاعسهم عن القيام بالجهد الذي يستحقه الموقف، فسوف يظهر لاعبون آخرون لاختبار الحدود.
ومع تهاوي النظام وتزايد صعوبة الحفاظ عليه أو إدارته، ينظر القادة التقليديون والمحتملون إلى التحدي على نحو متزايد باعتباره أعظم مما ينبغي، أو يعتمدون بكثافة على الحلول السريعة والتدابير الترقيعية، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم عدم القدرة على التنبؤ وانعدام الاستقرار. وعند هذا التقاطع بين الاختبار والخوف بدأت تتحرك هذه الحلقة المفرغة من الاضطرابات الجيوسياسية التي نعيشها اليوم.
وعلى هذه الخلفية، لا يوجد سبب قد يدفعنا إلى الاعتقاد بأن التنبؤ بالأزمات الكبرى، ناهيك عن احتوائها، قد يصبح أكثر سهولة بأي حال من الأحوال. إِذْ تعمل التعقيدات العالمية المتنامية على اشتداد حدة المشكلة. وتحت وطأة تخمة المعلومات، تبدأ الحكومات والمؤسسات الدولية الكبرى في التغاضي عن الإشارات أو إساءة الحكم عليها وسط كل الضجيج. وقد أصبح من الصعب على نحو متزايد أن يركز القادة على عدد محدود من البنود المهمة، والذي كان ليزيد من جودة اتخاذ القرار في الأرجح.
في عام 2014، ماتت افتراضات قديمة. وفي مؤتمر الأمن في ميونيخ هذا العام، سوف يحظى العالم بالفرصة للنظر في الافتراضات الجديدة التي ينبغي أن تحل محلها.
** ** **
- وولفجانج إيشنجر/ رئيس مؤتمر الأمن في ميونيخ.
- أدريان أوروتز/ كبير مستشاري السياسة والتحليل لدى مؤتمر الأمن في ميونيخ.
وهذا المقال مقتبس جزئياً من مقال نُشِر في إطار تقرير ميونيخ الأمني الأول الذي صدر بمناسبة انعقاد مؤتمر الأمن الحادي والخمسين في ميونيخ.
حقوق النشر : بروجيكت سنديكيت، 2015.
- ميونيخ