خلو العصر من المجتهدين
* هل يجوز خلو العصر من المجتهد بدليل ما جاء في البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»؟
- يحتمل أن يكون الجواز الوارد في السؤال في قوله: «هل يجوز خلو العصر من المجتهد» يحتمل أن يكون سؤالاً عن حكم تكليفي بمعنى أنه هل يجوز ويحق ويسوغ للأمّة أن تفرِّط في العلم بحيث لا يوجد من يصل إلى رتبة الاجتهاد؟ ولا شك أنّ مثل هذا غير مقصود، فلا يجوز بحال أن تترك الأمة بغير مجتهد يقوم لله بالحجة، بل لا بد أن يوجد مجتهدون يقومون بحجة الله على خلقه، وغير المجتهد لا يفي بالغرض الذي تقوم به الحجة على العباد، هذا الاحتمال الأول.
والاحتمال الثاني وهو مسألة الإمكان والوقوع القدري، فهذا ممكن، لكن مثل هذا لا يستدل به على تكاسل الذي لديه الأهلية من هذه الأمة لأن يصل إلى مرتبة الاجتهاد فيفرِّط في تحصيل العلم حتى يكون مجتهدًا تقوم به حجة الله على خلقه، فإمكان الوقوع غير الحكم التكليفي، وجاءت نصوص ولاسيما فيما يقع في آخر الزمان أو في المستقبل مما ظاهرها التعارض مع نصوص تكليفية، إما تدل على الوجوب، أو تدل على الحظر والمنع، فمثلاً في حديث «لترينّ الظعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله» [البخاري: 3595]، هذا لا يدل على أنّه يجوز لها أن تسافر بدون محرم، لكن هذا حكاية واقع، ولا يعني أنّه يقضي على النص المحكم في وجوب اتخاذ المحرم في السفر، ومثل هذا كونه يجوز أن يخلو عصر من المجتهدين ولا سيما في آخر الزمان بدليل الحديث الذي أورده السائل، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد» يعني من قلوب الرجال، بأن يمسي عالمًا ثم يصبح جاهلاً، لا يكون بهذه الطريقة، وإنما يكون ذلك بقبض أهل العلم، فإذا قبض أهل العلم لم يبق إلا أهل الجهل، «ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» [البخاري: 100]، وهذا لا يكون دفعةً واحدة، وإنما يكون بالتدريج، يموت العالم فلا يخلفه أحد، يقوم من بقي من أهل العلم بما قام به، ثم إذا انتهى هؤلاء العلماء ولاسيما في آخر الزمان حصل ما جاء الخبر به ولا بد من وقوعه؛ لأنه خبر الصادق، وهذا لا يعني أنّه يسوغ لأهل العلم وطلبة العلم أن يتخلوا عن العلم وعن متابعة التحصيل ليصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، فليس هذا معناه الحكم التكليفي بقدر ما هو إخبار عن واقع سيكون.
* * *
الاحتجاج بحديث «أفلح وأبيه»
* كيف يتم الرد على من احتج برواية: «أفلح وأبيه إن صدق» على جواز الحلف بغير الله ولاسيما وأنها في صحيح مسلم؟
- هذه الرواية لا مطعن فيها وهي في صحيح مسلم، وقد جاء النهي عن الحلف بغير الله في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [أبو داود: 3251]، ولا شك أن هذا هو الحكم المقرر عند أهل العلم، وأنه لا يجوز بحال أن يحلف بغير الله، ووقوع مثل هذا في هذا الحديث «أفلح وأبيه إن صدق» [مسلم: 11]، وأمثاله إمّا أن يقال: إنه قبل النهي فيكون منسوخًا، أو كما قال السهيلي إنه وقَفَ على نسخةٍ عتيقةٍ موثّقة من صحيح مسلم وأن الرواية فيها: «أفلح والله إن صدق»، فقصرت اللّامان في لفظ الجلالة (والله) فتصحفت، وإذا قصرت اللامان في لفظ الجلالة صارت الصورة (وأبيه) إلا أنها تحتاج إلى نقط، هذا مما قاله أهل العلم في هذه المسألة، والمسألة محكمة، فالنهي عن الحلف بغير الله -جل وعلا- ثابت، والنصوص صحيحة، وجاء التخصيص «لا تحلفوا بآبائكم» [البخاري: 3836]، فكيف يخالفه ويحلف بأبي هذا المتحدث؟! المقصود أن مثل هذا الحديث لا يرد على النهي عن الحلف بغير الله -جل وعلا-؛ لأنّه محتمل لأن يكون قبل النهي فيكون منسوخًا، أو كما قال السُّهَيْلي: إن الأصل (والله) فقصرت اللامان ثم تصحَّف وكتبها من بعده (وأبيه).
يجيب عنها: معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير - عضو هيئة كبار العلماء - عضو اللجنة الدائمة للفتوى