إن البركة إمداد إلهي قدسي. والجميل والعميق في الأمر أن هذا الإمداد هو خيار أنت تختاره، حيث إنه يمكن أن يُستمد بما يقابله من إعداد، ولكمال الإعداد من/في رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عنه حذيفة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد أدركته الدعوة وولد ولده).
ونحن نمتلك في تجربتنا الحياتية التي نعيشها (أفكارنا ومشاعرنا وأجسادنا) والكثير من الأشخاص والأشياء التي نحب أن تكون مباركة. ثم إن من الجمال المنبثق عن البركة أن وجودها في حياتنا مرتبط ارتباطاً كلياً ومباشراً بمجموعة المشاعر العالية، كالسلام والحب والبهجة والوفرة. إن البركة هي خيار ذاتي وفتح من الله في الوقت نفسه، تؤثر بشكل وبآخر بازدهار في حياتنا، حيث يشمل كل مجالاتنا العلمية والعملية والأسرية والمالية، بل والنفسية والجسدية. ومن كان لديه خيار/فتح لاستجلابها فمطلوب منه بعد ذلك العمل على استدامتها.
وكلما كانت لدينا بركة واستدمناها زادت لدينا المشاعر العالية والجميلة، وإذا زادت المشاعر الجميلة وصلنا إلى ما وصل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من قناعة حيث قال: (الدنيا حلوة خضرة). وهنا ثمة سؤال يطرح: ما هي الدنيا التي في قلبك؟ هل هي دنيا الشقاء والألم والضيق والحزن! أم هي دنيا البركة؛ تلك الحلوة الخضرة! إنها سلسلة كل حلقة تتداخل مع أختها. إننا في حديثنا عن الوعي بالبركة نتحدث بشكل مباشر عن الوعي تلك الحالة من الاستعداد واليقظة العالية من الإدراك والمعرفة وذوق القلب ووجدانه والمراقبة وما يستتبعه من تطبيقات، وبالتالي فإن أقوى ما يجعلك أن تعيش حياتك ببركة هو الوعي بالإعداد ليتوالى عليك الإمداد.
إن الوعي بالبركة يتطلب منك أولاً وقبل كل شيء أن تكون واعياً بأن الله هو مصدر البركات، وأنها تتنزل من السماء على هيئة فتح، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ..}. والفتح هو إزالة كل شيء يمكن أن يسبب الانغلاق، وبالتالي فإن كل إعداد يقابله - وبلا شك - فك انغلاق، ويمكن أن نقول إذن إن الفتح هو سريان طاقة البركة بإقبالٍ عليك يخصك، وما يحيط بك من الأشياء والأشخاص والأزمنة والأمكنة. ولنأخذ مثالاً على ذلك، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما نقصت صدقة من مال)، فكيف مادياً لا ينقص مالك وأنت قد صرفتَ وأنفقتَ أو تصدقتَ وأعطيتَ منه!؟ هنا تُطلق/تتّفعل البركة بشكل لا مادي لتغطي ذلك النقص المادي، وهنا يسقط كل سؤال يبدأ بـ(كيف)، إذ إنه عند هذا المجال تتساقط الأسئلة التي تدور حول كيفيات الحدوث. ثم إذا تم الوعي بأن الله هو المصدر للبركات فلا بد أن نتلّمس مسالكها، ومن تلك المسالك على سبيل التمثيل لا الحصر قراءة سورة البقرة، وقد جاء فيها النص النبوي عن رسولنا المبارك صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة). ومن اللطائف هنا أن مفردة بركة لم تأت مخصصة بشيء معين، بل جاءت عامة لنزداد ابتهاجًا وفرحًا وأُنسًا بأن بركتها ستحلُّ بي كقارئ لها أولاً، وفي كل الأشياء والأشخاص الخاصين، ومن أكون على اتصال بهم. ومن المسالك أيضاً قيمة الصدق كأحد مكونات الشخصية الإنسانية، وكلما كنت صادقاً كنت متصلاً بحبل مع الله متين، ولذلك نجد الارتباط بين الله والصدق والبركة ممثلاً في قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البرِّ وإن البرَّ يهدي إلى الجنة). فالبداية كانت بالصدق، والوصول كان إلى الجنة، والجنة هي المكان المبارك في كل شيء، فمن أراد أن يزداد بركة فليزدد صدقًا مع نفسه والآخرين. ومن هنا يمكن أن نقول إن قيمة الصدق هي أحد بوابات البركة العظيمة. إنك ما لم تكن مستجلبًا للبركة مستديمًا لها فإنك تكون قد فوّت على نفسك أحد الخيارات الرئيسة في تجربتك الحياتية التي لها أثر يمتد ولا ينحدّ. إن البركة تقديس سماوي لك أيها الإنسان الساكن على الأرض لتدرك أنك وإن كنت على الأرض إلا أنه يمكن أن تستجلب بركات السماء، وما كان ذلك ليكون إلا لأنك سرت في الطريق الموصل بك إلى السماء، وهكذا فإن كلن سلك طريقًا إلى الله وجد الله يقينًا. فلا تستصعب حدوث البركة، فإنما هي اتجاه إلى الله بالقلب وشيء من الصلوات والدعوات والتوقيتات. فاللهم اجعلنا مباركين حيثما كنا، ولتدم على الجميع بركات السماء.