كأنّي بأهلنا الموجوعين المحاصرين في قطاع غزة، وفي ظل ما يتعرضون له من طعنات متتالية، يستعذبون رائعة عنترة بن شداد «دَهَتْنِي صُرُوفُ الدَّهْرِ وَانْتَشَبَ الْغَدْرُ»، بل وينشدونها، ويتحسسون معانيها وأصداءها فيما يجري لهم، ويعبرون بها عن دهشتهم من الأحياء (الموات) مِنْ حولهم:
دَهَتْنِي صُرُوفُ الدَّهْرِ وَانْتَشَبَ الْغَدْرُ
وَمَنْ ذَا الَّذِي فِي النَّاسِ يَصْفُو لَهُ الدَّهْرُ
وَكَمْ طَرَقَتْنِي نَكْبَةٌ بَعْدَ نَكْبَةٍ
فَفَرَّجْتُهَا عَنِّي وَمَا مَسَّنِي ضُرُّ
وَلَوْلَا سِنَانِي وَالْحُسَامُ وَهِمَّتِي
لَمَا ذُكِرَتْ عَبْسٌ وَلَا نَالَهَا فَخرُ
بَنَيْتُ لَهُمْ بَيْتاً رَفِيعاً مِنَ الْعُلَا
تَخِرُّ لَهُ الْجَوْزَاءُ وَالْفَرْغُ وَالْغَفْرُ
وَهَا قَدْ رَحَلْتُ الْيَوْمَ عَنْهُمْ وَأَمْرُنَا
إِلَى مَنْ لَهُ فِي خَلْقِهِ النُّهَى وَالْأَمْرُ
سَيَذْكُرُنِي قَوْمِي إِذَا الْخَيْلُ أَقْبَلَتْ
وَفِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ
يَعِيبُون لَوْنِي بِالسَّوَادِ جَهَالةً
وَلَوْلَا سَوَادُ اللَّيْلِ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ
وَإِنْ كَانَ لَوْنِي أَسْوَداً فَخَصَائِلِي
بَيَاضٌ وَمَنْ كَفَّيَّ يُسْتَنْزَلُ الْقَطْرُ
مَحَوْتُ بِذِكْرِي فِي الْوَرَى ذِكْرَ مَنْ مَضَى
وَسُدْتُ فَلَا زَيْدٌ يُقَالُ وَلَا عَمْرُو
وحتماً يتجدد الأمل في نفوس أهلنا، ليس فقط مع كل يد تمتد إليهم بالدعم والمؤازرة، بل أيضاً مع كل كلمة حرة نزيهة تقوِّي عزيمتهم وتشدُّ من أزرهم، ولاسيما إذا اتسمت الكلمة بالجرأة والدقة والشمول على النحو الذي رسمه صاحب النبض الحي الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد، في مقالته النابعة من أعماقه المنشورة في مجلد العددين (459 و460) لمجلة الفيصل تحت عنوان: «الويل والثبور للسيد كرينبول».
أما كرينبول، فهو السيد بيير كرينبول؛ المفوّض العام للأونروا، وأما الويل والثبور، فله لأنه تجرّأ وأصدر بياناً شديد اللهجة ضد الغارة الإسرائيلية على مدرسة الأونروا أثناء الحرب المسعورة الأخيرة التي شنها العدو الصهيوني على قطاع غزة، ودعا فيه إلى محاسبة إسرائيل.
يشير كاتبنا إلى ذلك البيان بقوله: «السيد كرينبول، الذي صحا ضميره بعد المشهد المروّع الذي نتج عن إحدى مجازر إسرائيل في غزة، سوف يصبح هدفاً لإسرائيل وحلفائها، وستلحقه تهمة اللاسامية؛ فإسرائيل - التي هي فوق النقد - كان المطلوب منه أن يراعي وضعها المدلّل عالمياً؛ فيصدر بياناً رَخْواً يطالبها فيه بعدم استخدام القوة المفرطة، سوف يُلاحق السيد كرينبول، وستهبُّ جماعة الضغط الصهيونية في العواصم الغربية مطالبةً بإدانته، وقد يتراجع عن بيانه أمام الهجمات المسعورة التي سَتَطالُه، والتي ستذكّره بأن مجازر إسرائيل إنما هي للدفاع عن النفس ضد الأشرار في قطاع غزة الذين رَوَّعوا الآمنين من الإسرائيليين».
وعن الدماء التي سالت على أرض غزة، والدمار الشامل الذي طال فيها البشر والحجر والشجر، يقول الدكتور يحيى: «هو مجرد ردّ فعل مشروع في عُرف جماعات تَخَلَّتْ عن إنسانيتها، وتَجَرَّدَتْ من كلّ القيم التي يُفترض أن يتحلى بها الإنسان وهو يشهد الهجمات المسعورة على شريط صغير مُحاصَر من كلّ جهاته براً وبحراً وجواً، وتدمّر منازله ومساجده ومستشفياته ومدارسه ومحطات الكهرباء والماء والملاجئ، مُعَرِّضةً أكثرَ من مليون إنسان يقطنونه لمحرقة لا نظير لها في تاريخ البشرية، من دون أن تجد رادعاً، ومن دون أن تحظى بالتفاتة إنسانية من عالم الغرب الإنساني المتقدم الذي يمتلئ بجمعيات حقوق الحيوان».
ويجيّر أستاذنا الكبير الأهوال التي تجرعها الشعب الفلسطيني في غزة أثناء ذلك العدوان البغيض، إلى «محنة في الضمير الإنساني لدى مسيّري السياسة الغربية، الذين يصرّون على معالجة العدوان وفق الرؤية الإسرائيلية بإبقاء غزة تحت الحصار، وتدمير الأنفاق التي تستخدم لجلب القوت اليومي للمحاصَرين، ونزع السلاح البدائي الذي تدافع به عن وجودها أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية المتقدمة بطائراتها وبوارجها ودباباتها ومدافعها وصواريخها».
وبصوت يسمعه الداني والقاصي يصف الدكتور يحيى تلك الحرب بالمحرقة مؤكداً أن: «ما تناقلتْهُ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة يومياً منذ بدء العدوان هي من دون شك - في حال يقظة الضمير الإنساني - محرقة لا نظير لها، تحتاج إلى تشكيل محكمة دولية يُجَرُّ إليها نازيَّةُ الصهاينة لمحاكمتهم كما حُوكم مَن اتُّهموا بالمحرقة (الهولوكوست)، و»دون ذلك خَرْطُ القَتَادِ»، فمن يجرؤ على رفع الراية؟ والويل والثبور للسيد كرينبول وأمثاله؛ فاليهود الصهاينة، والحكومة النازية الفاشية في «تل أبيب»، لهم اليدُ الطُّولَى في المحافل الدولية لردع كلّ من تُسَوِّلُ له نفسُهُ الاحتجاج على مجازر غزة، التي لا تقبل استخدام كلمات ليِّنة، مثل: «التهدئة»، و»الامتناع عن الإفراط في القتل»، في وصف جرائمها الإنسانية، فما بالك باستخدام «مجزرة»؟! فنحن أمام شعب الله المختار، الذي يعيش داخل دولة ديمقراطية مسالمة، من حقّها أن تعمد إلى ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية عندما تُحِسُّ بالخطر من سكان شريط صغير لا يملكون غير الإرادة الحديدية في الدفاع عن أنفسهم، وإنْ أدى الأمر إلى إبادتهم جميعاً أمام أنظار العالم الحرّ».
وبنبض المتألم ختم الدكتور يحيى مقالته السامقة بنعي حزين لعراقة تاريخنا، وأصالة عروبتنا، وقداسة إسلامنا، ينعى فيه موات «الإحساس لدى ذوي القرابة الذين يَكِيلون التُّهم لأهل غزة، ويعدُّونهم السبب في هذه الواقعة، التي يخجل «نيرون» و»أتيلا» و»جنكيز خان» و»هولاكو» من ارتكابها، وهم مَنْ هم في الوحشية والطغيان. وويح نفسي! هل أثار منظر العربية الأسيرة في القدس أيّ شعور بالمهانة، وهي تُقاد على أيدي ثلاثة من عتاة الصهاينة النازيين يسحبونها مقيّدةً إلى مصير مظلم؛ لأنها احْتَجَّتْ على ما وقع على ذوي قرابتها في غزة، وكأني بها تصرخ: «وامُعْتَصِماه»، ولا مُعتصمَ لها، كما شعبها كله الذي تفتك به إسرائيل ليل نهار قتلاً وحرقاً، ولا نسمع غير هَمْسٍ حَنُونٍ دونَ الخُفُوت، يطالب بالتهدئة، وضبط النفس، وعدم الإفراط في صنع المجازر والتدمير من كِلا الطرفين: المعتدِي الغاشم صانع المجازر، والضَّحية المعتدَى عليها».
وأراني هنا ـ أصالة عن نفسي، وإنابة عن أهلنا في غزة وفي كل فلسطين وفي الشتات ـ أمد يد الشكر والتقدير والامتنان لمصافحة أستاذنا الكبير الدكتور يحيى محمود بن جنيد، ولا أقول هذا دهشة أو استغراباً، فهذا ديدن الفكر الحر والقلم الأصيل، وإنما لأنقل له مع المصافحة صرخة شعب مرابط صابر؛ أننا الفئة المنصورة التي لا يضرها من خذلها، وأننا بعون الله الناصر، ثم بوقفة الشرفاء أمثالكم، سنعيد الصَّحْوَ للغافلين التائهين، وسنشفي صدور المؤمنين الثابتين، بنصر مبين ننتصر فيه على عدونا، ونحرر به أرضنا، ونعيد إليها المشتتين المشردين من أهلنا، ونقيم دولتنا المستقلة وذات السيادة على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف.
إنها صرخةُ إرادةٍ يحفُّها الإيمان بوعد الله سبحانه وتعالى، وفي الصبح القريب ـ بحول الله ـ سنجدد الإنشاد معاً:
«سَيَذْكُرُنِي قَوْمِي إِذَا الْخَيْلُ أَقْبَلَتْ
وَفِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ»