منظومتنا التعليمية بحاجة ماسة إلى تبني مقولة الحضارات لا تبنى بالكم وإنما بالنوع، هذه المقولة يجب أن يتم تأملها بعناية من قبل القائمين على منظومتنا التعليمية الجديدة كافة بكل أشكالها وأنواعها وصيغها، عليهم المضي إلى الأمام بكل قوة وتحد وصلابة أكثر من أي وقت مضى، وعليهم أيضاً تهيئة الأجواء لمرور حشود الفاعلين المميزين أكثر من حشود الكسالى، بشكل يلائم الاهتمام الذي يستحقونه، عليهم أن ينسوا ضوضاء الكم ويحيلون هذه الضوضاء إلى مشروع نوع، من أجل مستقبل مشرق كما نريد ونبتغي ونأمل، إذا أردنا ذلك علينا الابتعاد عن الشعارات بطرق براقة ورنانة، بل بمنظور العلم الذي غدا من أكثر العوامل تأثيراً في الحياة المعاصرة وحضارتها، بمعنى أن الغد لن يكون بهيجاً ما لم نتحوط له بإجراءات تعليمية عقلانية وموضوعية ودقيقة، بعيداً عن الواقع الراهن الذي هو بطبيعته غير مجد وغير فعال.
إن العبرة ليست بكم الشهادات التي نمنحها للخريجين كل عام، بل بعدد الذين سيكون لهم دور فاعل في بناء الوطن وصناعة الحياة التي نرغب، وأكاد اجزم ان انتاجنا من الكفاءات الوهمية لو تواصل كما هو الحال عليه اليوم كفيل بتخريب ليس الحاضر فحسب، بل حتى المستقبل، وأظن ان هذه المشكلة لم تعد بحاجة إلى توصيف، إذ صارت ظاهرة واضحة للعيان، بل وتذوقنا بعضاً من ثمارها غير الناضجة، متمثلة بآلاف من الطلبة الذين لا يجيدون كتابة عبارة واحدة سليمة، ومع ذلك أشرعت الجامعات أبوابها على مصراعيها لاستقبالهم، ومثلهم من المتخرجين الذين لا يصلحون البتة للعمل في الميدان، وفي أحيان كثيرة غدت مخرجاتنا مثار تندر حتى من الذين لم يتلقوا تحصيلا علميا، نعرف أن التعليم الأولي يجب أن يكون متاحا للجميع، لكن ذلك لا ينطبق بالضرورة على التعليم العالي الذي يفترض أن يقنن وأن يمنح لمن تتوفر فيهم المؤهلات والقدرات والمواهب فقط، لذا يجب على منظومتنا التعليمية الجديدة مجاهدة التعثر الحاصل وذلك بالتحويل الفوري من مخرجات الكم إلى مخرجات النوع، حتى يكون التأهيل الحقيقي للفاعلين المميزين لممارسة أدوارهم الفاعلة التي يمكن أن تسهم في عملية البناء التي تحتاجها بلادنا اليوم.
إن العمل على التغيير في المنظومة التعليمية يحتاج إلى شجاعة وقوة إرادة، وأعرف تماما أن معالجتها أمر فيه من الصعوبات الكثير، ومتيقن تماما بأن من المعالجات ما يثير تداعيات ويخلق مشكلات في مجالات أخرى، لكن لا بد من الكي وإن أوجع أو أحدث ألماً، لأن بلادنا الناهضة بحاجة لعقول مبدعة ومنتجة وفعالة وليس لأشباه متعلمين وحشود كسالى.