انتقل إلى رحمة الله بعد سنوات حافلة بالعطاء الأستاذ الدكتور راشد بن عبد العزيز المبارك، العالم الفذ والمفكر الجليل والإنسان البار بأمته والقريب من محبي الفكر والثقافة والعلم وصناع الكلمة وعشاق القلم ومحترفي المعرفة. ولا شك أن ما سيرد في هذا المقال هو غيض من فيض عما أعرفه عن شخصية أخي وشقيقي الدكتور راشد المبارك الفذة المعطاءة الرحبة النفس الطيبة القلب التي عهدتها دائماً ذات وفاء وكرم ونخوة وشجاعة وانتماء. ولا غرابة في ذلك؛ فالدكتور راشد المبارك - رحمه الله - هو سليل أسرة آل المبارك التي شهدت لها أقلام العدول من المؤرخين وكتّاب السير والمفكرين بالعلم والفضل والمجد والحسب والنسب وذيوع الصيت.. فهي أسرة كريمة من أسر واحة الأحساء التي اشتغلت لعدة قرون بعلوم الشرع والفقه واللغة والشعر والأدب، وورثتها أجيالها أباً عن جد. ولا شك أن الدكتور راشد المبارك - المغفور له بإذن الله - هو أحد ورثة مجد هذه الأسرة وعلمها وأدبها وصيتها. إن هذا الإرث هو أحد مقومات بناء شخصية الدكتور راشد العلمية والفكرية والثقافية الفذة التي تخطت بعون الله حدود الوطن، وتربعت على عروش الفكر والعلم والثقافة في أكثر من وطن، وامتلكت سويداء قلب عدد غير قليل من مفكري وعلماء ومثقفي المعمورة.
إن كل من يعرف الدكتور راشد المبارك يتفق معي على أنه صاحب شخصية صادقة، تظهر ما تضمر، ولا تخاف في ربها لومة لائم، ولا تنافق ولا ترائي، بل لم تتطرق إليها أساليب المجاملات الرخيصة الممجوجة.. فهو كما هو دائماً قمة في خلقه الرفيع، وفي نزاهته وعفته، وفي فكره الراجح المستنير، وحكمته الصائبة، وسريرته الصادقة، وتواضعه الجم، وعمله المخلص الدؤوب، وعطائه الدافق المدروس النابع عن اعتداد بالنفس وثقة بها بلا كبرياء أو استعلاء. وإضافة إلى كل ذلك، يتميز الدكتور راشد المبارك - رحمة الله عليه - بحب الناس وحبهم له، فيألف الناس ويألفونه، ويأنسون مجالسه، ويطربون لأطروحاته العلمية والفكرية المتميزة المتعمقة الأصيلة وإن اختلف بعضهم معه في بعض ما يطرح ويعرض دون أن يفسد هذا الاختلاف للود قضية معه أو معهم. ولهذا فقد أسكن الدكتور راشد المبارك - طيب الله ثراه - كل من عرفهم سويداء قلبه الكبير، وسكن هو أيضاً في قلوبهم، وتربع على عروش وجدانهم، وترسخ في عقولهم إنساناً باراً وفياً نزيهاً جاداً موضوعياً رحب الصدر شفاف النفس عالماً وأديباً وشاعراً مجيداً، وصاحب رؤيةٍ ناضجة وفلسفة واقعية، تحمل منظوراً ثاقباً عن الحياة والكون. ولا شك أن هذا المنظور قد أثر في طبيعة شخصية الدكتور راشد المبارك الذي أخذ على نفسه عهداً أن يتجرد من الذات، وأن يرتقي فوق المنافع الشخصية، وأن يعيش لغيره، وأن يمنح قلبه للناس كل الناس، وأن يؤثرهم على نفسه.. وقد فعل وأحسن الفعل. ووفاءً منه لهذا العهد تجده لا يترك صديقاً إلا يبره ويسأل عنه ويتودد إليه، ولا مريضاً إلا يعاوده ويواسيه، ولا مكروباً إلا يعينه على نوائب الدهر. فما طرق أحد باب الدكتور راشد المبارك - أسكن الله روحه الجنة - إلا ونال حاجته، وعاد من حيث أتى معززاً مكرماً غير خائب أو محزون. إضافة إلى ذلك، فهو يتألم لألم المظلومين والفقراء والبؤساء والمسحوقين والمنكوبين لحد الأرق الذي يقض مضجعه، ويبرحه وجعاً وألماً، ولا يرتاح له بال إلا بعد رفع الظلم والبؤس عنهم. أما سمعتم الدكتور راشد المبارك وهو يصدح في ديوانه «رسالة إلى ولادة» بصوت الأرض الإنساني المدوي قائلاً:
أنا نشيج الأسى في صدر من ظلموا
أنا أنين الشجى في قلب من نكبوا
كذلك تؤرق الدكتور راشد وتقض مضاجعه قضايا أمته العربية والإسلامية؛ فيحترق كمداً لما تعانيه من مشكلات؛ فلا تهدأ له نفس، ولا تنام له عين إلا بعد أن تتجاوز أمته محنتها. فهو لا يقف من قضايا أمته، كما يفعل البعض، موقف المتفرج إذا ادلهمت الخطوب، بل يسرع بكل عزيمة واقتدار بالمشاركة الفاعلة في حل معاناتها بقلمه وماله وجهده.
عزيزي القارئ الكريم: أما الوجه المشرق الآخر لعطاء الدكتور راشد المبارك - رحمه الله - فيتمثل في أبحاثه ومؤلفاته في الكيمياء وفي آلية الكم وفي الفكر والفلسفة والثقافة التي تعد بحق أطراً مرجعية يعتز الدارسون بمنهجها الصارم السديد، وجديتها في الطرح، وأصالة منشئها ومبتغاها. ويعتبر كتابه (هذا الكون: ماذا نعرف عنه) سفراً علمياً رائعاً، عرض فيه الدكتور راشد عدداً من قضايا علوم الطبيعة والكون وفق أسلوبه العلمي الدقيق، ولغته العربية الناضجة، التي يفاخر بها اللغات كل اللغات، ويتصدى لمن ينتهكها أو يقلل من شأنها. لهذا كان الكتاب - وما زال - مرجعاً للقاصي والداني في علوم الكون، ومدرسة تعكس منظوراً فريداً في التأليف العربي، وإضافة رائعة للمكتبة العربية في هذا المجال. ولا شك أن قلم الدكتور راشد المبارك البليغ، وتخصصه العلمي الدقيق في كيمياء الكم وميكانيكياتها المتنوعة، وخلفيته الرصينة الراسخة في أعماق علم الكون وفلسفته، وثقافته الموسوعية، قد أعطت كتاب (هذا الكون) التميز العلمي الذي يعد سمة لما يكتبه الدكتور راشد وديدن مساره العلمي الفكري المرموق. وقد نجح كاتب هذا المؤلف في رأب الصدع بين العلم المتخصص الدقيق الذي يهابه الناس، والثقافة العلمية العامة التي يعاني البنيان الفكري لأمتنا من نقص حاد فيها. فجاء الرأب في الكتاب مسدداً هذا النقص، وشاملاً في إحاطته، وعميقاً في أسلوب عرضه ومحتواه، وكاشفاً للغوامض في أمور لا يمكن كشفها بمثل هذه الإحاطة والدقة التي وردت في الكتاب إلا من قِبل قامة علمية كقامة الدكتور راشد المبارك. كما نجح د. راشد - رحمه الله - في هذا الكتاب في توضيح ما أحدثته القضايا العلمية في حياة الناس، وطرق تفكيرهم، ومسار نموهم الفكري من ناحية، وتبيان مدى تأثر المفكرين بقوانين علم الطبيعة، وتوظيفها في تفسير قضايا المجتمع والسياسة والاقتصاد من ناحية أخرى. وإنني أتفق مع ما ذكره الدكتور المبارك في كتابه (هذا الكون) من أن «مدارك البشر ومعارفهم هي مقربات الرؤية الكاشفة لأبعاد هذا الكون، وأن مجال الرؤية يتسع بهذه المقربات بقدر اتساع المعارف ونضج المدارك». وأعتقد أن اقتران الخيال بالفكر، والتذكر بالتصور، هو الزاد الحقيقي لمن أراد أن يستمتع بتجليات الكون المتوهجة، ودقائقه المتخصصة التي عرضت معانيها في هذا الكتاب ومفاهيمها دونما إخلال بدقتها، أو مساومة بصحتها. ولم يكن هذا الكتاب هو الحيد الذي يحمل مدرسة الدكتور راشد المبارك وفكره، وإنما هناك عدد آخر من المؤلفات التي لا تقل جودة واتقاناً عن كتاب (هذا الكون). ولا شك أن خلفية الدكتور راشد المبارك الفلسفية المتعمقة، وعلمه الغزير وشاعريته المتألقة، ومشاعره الإنسانية الكريمة والوجدانية المرهفة، قد أكسبت كتبه ألق العالم الأديب، وتأمل الفيلسوف الحالم المحلق. وقد تجلت هذه السمات في كتابه الموسوم (قراءة في دفاتر مهجورة) وكتابه (فلسفة الكراهية: دعوة إلى المحبة) وكتابه (نزار قباني بين احتباسين) وكتابه (التطرف خبز عالمي) وكتابه (شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة) الذي فاز بجائزة وزارة الثقافة والإعلام السعودية في دورتها الأولى لأفضل كتاب للعام 2012م. ويعد هذا الكتاب كغيره من مؤلفات الدكتور راشد المبارك إضافة حقيقية للمكتبة العربية؛ فهو يعلي من شأن الفلسفة، ويؤكد شموخها، لكنه في الوقت نفسه يؤكد تهافت بعض المشتغلين بالفلسفة نتيجة لتبنيهم أمراً يتناقض مع شموخ الفلسفة التي يشتغلون بها، وهو تلك النزعة التقريرية والوثوقية في أطروحاتهم التي لا تتعدى كونها خواطر وانطباعات لا ترتقي إلى المستوى الوثوقي الذي يتبنونه. ومن أمثال هؤلاء الفلاسفة التقريريين أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وكانت وشوبنهاور. وقد اختتم الدكتور راشد المبارك هذا الكتاب بتساؤل مهم، لا أظن - على حد علمي - أن أحداً قد أثاره من قبله، وهو تساؤل يتعلق بماهية العقل ووظيفته، وهل من الممكن للعقل أن يقرر قضية ما ثم يأتي بما يناقضها، أي بمعنى آخر: هل العقل شاهد زور؟ هذه المنجزات العلمية هي خير شاهد على ما تحمله مؤلفات الدكتور راشد المبارك من رؤى غنية وثرية بالتفكير العلمي المستنير الحر المستقل، والعمق الذي تحتاج إليه الثقافة العلمية في بلداننا العربية. ولا ننسى أن نضمن قائمة عطاءات الدكتور راشد المبارك ديوانه الموسوم (رسالة إلى ولادة) الذي يعد سفراً لأعماق الدكتور راشد المبارك، يدغدغ فيه عواطف قرائه، ويسحرهم بلغة شعره الجياشة الفياضة، ويرحل بهم ليحط بهم الرحال في مكامن كشف الغطاء عن شفرات رموز شعره الذي مزجه بهواء الشام، ورحيق جنانه، وغصن كرمه النضير، وغديره النمير الذي مات في غيمة ضمنها الشاعر بيتاً من أبيات إحدى قصائد هذا الديوان الرائع. إن شعر الدكتور راشد صور تتحرك ضمن أطياف الشاهد المقيس من الحالات التي تبهر المتلقي، وتدهشه؛ فتجعله يعيش تجربة حية، تثير عواومكامن وجدانه، وتوقظ فيه استشعار الشعر وشاعرية الشاعر؛ لينساق بعقله وعاطفته معاً وراء الأداء البارع في التصوير وشعرنة الأحداث والانتقاء الموفق للفظة التي تسبح بقارئها ضمن أطياف الماضي والحاضر متجاوزة سقطات الزمان وعجائب المكان وأهواله نحو زمكنة مستقبلية تجديدية مشرقة مليئة بالأمل رغم الألم الذي يكتنفها. فالشعر عند الدكتور راشد المبارك - رحمه الله - جسر للأمل رغم مثبطات الأمل وهول محفزات الألم واليأس لحاضر ما مضي وماضي ما حضر من الظواهر والأحداث والحالات مؤملاً أن لا يكون ما استقبل من الزمان وصروفه في شعره مثل ما استدبر من ماضي زمان أمته وحاضرها. ويعد شعر الدكتور المبارك - غفر الله له - نمطاً متفرداً من أنماط الوجد والألم والأمل وكل توافقات النفس البشرية وتعارضاتها ومقارباتها أو مفارقاتها.. فهو إن وصف ماضي الحسن في النواعم من البشر وحاضره فهو يصفه بأسلوب حضاري رفيع، يليق بكرامة الناعم الموصوف وحقه في الوجود، ويتسق مع مكانة د. راشد الشاعرية وخلقه التي تتألق إنسانية، وتأبى مهاوي الزلل، وتحلق بالكلمة إلى المعالي والرقي.
وقد عكس شعره زخماً من شذرات تخصصه الدقيق في آلية الكم التي تصف مسير الضوء من مصدره إلى مبتغاه في دفقات غير متصلة الأطياف، يطلق على كل وحدة منها كوانتا، أي دفقاً متقطعاً غير متواصل المسير وغير مرتبط فيقول:
يا لؤلؤ الحسن دفق الضوء رنقه
قبل المغيب انسكاب اللون في الشفق
ويا نضارة زهر ماج في مرح
وعودة الرفة الجذلى إلى الحدق
وقال في قصيدة أخرى:
يحاصر الشوق روحينا فيمزجها
حتى ليتحد المنظور والنظر
متأثراً مرة أخرى في حبكه لهذا البيت وفي غيره الكثير من شعره بمنهجيته العلمية الاستقراء - استدلالية في النظر والتجريب والاستنباط والتعميم التي تقوم على المجانسة بين النظر كمشاهدة والمنظور كرؤية لسبر مكنونات الجسيمات النووية في آلية الكم أو الكوانتم التي تمثل حقل تخصص د. المبارك الدقيق.
كما شمل شعر د. المبارك صوته الجريء الشجاع المدوي المحترق على مصائب أمته والمتألم والغاضب لها ومنها في كثير من الأحيان؛ فيهجوها هجاء أمل ورجاء متجاوزاً بشعره ماضياً موجعاً مريراً نحو مستقبل منير فيقول:
توزعتنا الأعادي شلو معركة
شل الخنا في وغاها السيف والقلم
قد أخمد الجور فينا كل نخوتنا
وقد طوى الذل فينا العز والعلما
لو كن للذل يوماً من يعلمه
لورثتنا الليالي راية وسما
أليس من سفه الباغي وهجنته
أن يحسب الداء لا يبرى وإن عظما
لن تستقيم على ذل جوانحنا
لليلنا ألف صبح يهزم الظلما
إنا وإياك والأيام شاهدة
ليعلم الدهر إيانا أعز حمى
ويسقط الدكتور راشد تجربته الإنسانية على شعره فيلبسها ثوب الحكمة والروية؛ لتصبح رمزاً ومثلاً، يستشهد به على أحداث الحياة المثلى من ضمير الإنسان اليقظ المحترق المجروح الغارق في حرقة دمع بلا سفر، وشوق يحيى بلا أمل، فيقول بصوت مدوٍّ يرد له الدمع في مقلتيه ويبرئ جرح أمته الخفي القاتل:
وأحرق الدمع ما يبقى بلا سفر
وأقتل الجرح ما يخفى ويستتر
وأنبل الشوق ما يحيى بلا أمل
ينث طلا على الأكباد تنفطر
وبعد كل هذا وذاك، فشعر الدكتور راشد غني بقاموس بيئي ثري من الألفاظ الرقراقة والعبارات الدافقة الدفيئة المعبرة.. فنلمس في شعره قاموساً يحوي ألفاظاً من مثل «الإشعاع والسحب والغمام والشهب والبروق والصحراء بحرها وقرها»، وعبارات من مثل «ألوان من الطيف أشرقت» و»السرب قد ضيع السرب» و»الركب قد ضيع الركب» و»سكب اللحن ينهمر» و»عطش النهر» و»حنين الضوء أظمأت الظمي» و»ضجيج الصمت» و»دفق الضوء». وهذه الألفاظ والعبارات التي شكلت فسيفساء شعر الدكتور راشد - رحمه الله - لم تكن لتتشكل لولا عبقرية شاعرنا وقدراته الفكرية الناضجة ووجدانه الواعي الصادق وحسه المرهف ولغته الرصينة وثقافته الموسوعية .
أعزائي: لم يحرم الدكتور راشد المبارك رواد الثقافة السيارة من كتاباته عن قضايا أمته ووطنه، مشاركاً إياهم فكره، ومهدياً قراءه أنفس أكاليل عطائه. فما كتبه في الصحف المحلية والإقليمية وبعض صحف العالم ما هي إلا دعوة للارتقاء بأمته، والإفصاح عما يفرحه أو يحزنه فيها، وعرض لوجهات نظره الجريئة في قضاياه الشائكة والشائقة، وتعبير عن رؤياه لحل أزماتها. إن ما كتبه الدكتور المبارك في الصحف السيارة هي - في رأيي - حافز للأمة على منافسة العالم المتقدم في مجال العلم، والفكر، والثقافة، والابتكار، والإبداع، والتأصيل، وتنمية الإنسان، وترسيخ مفاهيمه الصحيحة عن الحياة والكون، ومأسسة سبل تطوير الموارد البشرية، وتعزيز آفاق التفكير السليم، ونشر أبعاد الثقافة العلمية الناضجة.
إنَّ الهم الكبير الذي يحمله الدكتور راشد المبارك، وينعكس على ما يكتبه أو يتحدث عنه، يجب أن يكون هو همك، وهمي أيضاً، بل همّ جميع المهتمين بالعلم والفكر بشكل عام والثقافة العلمية بشكل خاص. فمن البدهي أن تنحو الثقافة العلمية في عصر تقنيات الفضاء وغزوه، وطفرة المعلومات وثورتها، وتطور الفكر وعولمته، منحى علمياً تلتزم فيه هذه الثقافة بحالات وقواعد الضبط المنهجي من حيث رصد الحقائق، وتصنيفها، وتبويبها، وتحليلها، وتفسيرها، وتأطير أسئلتها الملحة، وتنميط مسارات تلاحقها الثقافي. ونتيجة لكون الثقافة العلمية في بعض البلاد العربية تقع خارج هذا السياق، نجدها تعاني هوة سحيقة في مجال العلاقة بين حالات وقواعد الضبط المنهجي وأسس التأطير لواقع أسئلة الثقافة العلمية الملحة من ناحية، وأنماط تلاقحها الثقافي والتخطيط الشامل لعناصرها من ناحية أخرى. فيطغى على مسار الثقافة العلمية في بلادنا ثقافة الصورة، وثقافة الصحيفة اليومية، وهي ثقافة ذات طبيعة وقتية شبيهة بطبيعة الأوعية السيارة التي يزول تأثيرها على مسار الفكر واتجاهات الثقافة بمجرد زوال أسباب نشأة القضية الثقافية التي تحملها صفحاتها. وأعني بذلك صفحات بعض الجرائد والمجلات التي تحمل مضامين ثقافية خدجاً عجلى يمحوها الزمان حالما يتم نشرها. والمؤسف حقاً أن الثقافة السيارة ثقافة تركز بشكل أساس على الأدب، والشعر، والنثر، والتيارات النقدية، وتغيب ثقافة العالم التجريبي، والطبيب، والمهندس، والمخطط، والجغرافي، والمؤرخ، والآثاري، والمبتكر المبدع، وتحجب عن قصد أو عن غير قصد ثقافة الكهرومغناطيسيات وآلية الكم، والمعجلات النووية، وثورة النظم والتقنيات، وطفرة المعلومات، وهندسة المورثات، ورسم خرائط الجينات، واستشعار العالم عن بُعد، وحوسبة بياناته الجغرافية. كما تغيب الصحف ثقافة الإلكترونات، وثقافة أنوية الذرات، وما يقترن بها من الهادرونات، والأوتار الدقيقة لكواركات هذه الذرات التي تعتبر جميعها قضايا ساخنة للتنظير العلمي المعاصر والتطبيقات الحديثة في المصادمات الهادرونية والبيزوترونية والمعجلات النووية العملاقة. وأخص بذلك الجهد المبذول اليوم للوصول إلى نظرية الحقل الموحد في الفيزياء التي من المؤمل أن تربط قوى الكون المختلفة، وتشرح طبيعة المكون الوتري الدقيق لهذا الكون خلال المراحل التي سبقت انفجاره العظيم. إن الثقافة العلمية إذاً هي مطلب وطني يجب أن يستوطنالأرض، ويتربع على عروش قلوب قاطنيها، ليكسبهم العزة، والتمكين، والمجد، والاعتزاز بمنجزهم البشري المثاقفي. ويعد الدكتور راشد المبارك - رحمة الله عليه - من العلماء القلائل على مستوى عالمنا العربي الذين ينافحون من أجل مأسسة هذه الثقافة العلمية، وذيوعها في الأوساط العامة، وتعزيز وجودها الفكري على مستوى التجربة والوجدان. فهاجس المنظومة العلمية والفكرية لدى الدكتور راشد المبارك هو هذا البعد الثقافي المغيب الذي أشرت إليه آنفاً. فجمع الدكتور راشد بين العلم والأدب، وتوفيقه بين الفكر والثقافة، ومزاوجته بين القدرات الحوارية الفائقة التي يملكها وطرق التحاجج الموضوعي المتزن الذي يمسك بزمامه عوامل جعلت منه الشخصية المناسبة لمساعدة الأمة على تجاوز أزمة ثقافتها العلمية. كما ساعد على ذلك حضوره المميز والمتميز على الأصعدة كافة؛ فهو لم يكن في يوم من الأيام منعزلاً أو منزوياً عن الناس، والمجتمع، والعالم، بل هو كما هو دائماً مع الناس يسمعهم ما عنده، ويسمع ما عندهم، ويحاورهم، ويناقشهم، بتواضع المصلح، وحزم العالم المتمكن القدير، وروح الأب للصغير، والصديق للكبير. ومن هنا انبثقت فكرة ندوته الشهيرة (ندوة الأحد) التي كان يستضيفها الدكتور راشد المبارك - رحمه الله - أسبوعياً لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً. وهي ندوة ذاع صيتها في الأصقاع حتى أصبحت علامة بارزة على دروب العلم، والفكر، والثقافة محلياً وخارجياً. فهي بكل أمانة جامعة مفتوحة للعلم الشرعي، والأدب، والطب، والعلوم، والاجتماع، والسياسة، والإعلام، والاقتصاد، والفن، والهندسة، وعلوم الكون، والبيئة وعلوم الجغرافيا والأرض، وتقنيات الفضاء، والفلسفة، والتنظير، وقضايا العالم المعاصر بتياراته وقضاياه وأطيافه المتنوعة. كما أنها مركز للتدريب على الحوار البناء، واستيعاب الآخر، ومقارعة الحجة بالحجة، وترسيخ منهج الاختلاف وأدب الخلاف بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالأنسب من منطق الاحتجاج، وفلسفة البيان. ويعود السبب في بلوغ الندوة هذه المكانة المرموقة إلى مضيفها وعميدها الدكتور راشد المبارك - رحمه الله - الذي أعطاها، نتيجة للجهد الذي بذله من أجلها، وحضوره المتميز فيها، ألقاً خاصاً، ونكهة فريدة، وسياسة قوامها نبذ الخلاف، والتوفيق بين حالات الاختلاف ما أمكن، أو إبقائه في إطار تنوعه وتضييق الخناق على أطر تضاده. ولذلك حافظت هذه الندوة على روحها، وارتقت بروادها من المة إلى العالمية عبر الزمن، وحققت أهدافها التي من أهمها: نشر الوعي الثقافي والفكري والعلمي، وتقديم المعرفة في وعاء رقراق المعين وشائق الأسلوب، ومد الجسور بين العلوم الشرعية والطبيعية والإنسانية، وتبادل الخبرات بين أصحاب هذه العلوم، وتقريب وجهات النظر بين ما تباين من الأفهام واختلف من المشارب والمقاصد والغايات، ومأسستها للحوار وتقبل النقد والرأي الآخر. ونظراً لأهمية هذه الندوة فقد ارتادها مختلف أطياف المجتمع من الأمراء والأعيان والوجهاء والمثقفين والعلماء والمفكرين والمشايخ وطلبة العلم من داخل البلاد وخارجها. كما اهتمت بها بعض القنوات العربية المرموقة التي أخذت على عاتقها تسجيل بعض فعالياتها، وبثها ليراها كل مهتم بالفكر والعلم والثقافة في مختلف أصقاع الدنيا. وتضم الندوة مكتبة غنية بالأشرطة التي تحوي آلاف الساعات من المحاضرات والحوارات القيمة التي وجد بعضها طريقه إلى النور - بعون الله - عبر الوسائط الإلكترونية المختلفة، ووسائل النشر التقليدية، ومواقع الإنترنت ووصلاتها المتنوعة. ومن الجدير بالذكر، فقد تغنى «بندوة الأحد»، وبعميدها الدكتور راشد المبارك وروادها الأجلاء، عدد من الشعراء، وكتبت فيها القصائد التي تعد - في رأيي - من عيون الشعر العربي الحديث في المديح والثناء. ومن أولى القصائد التي قيلت في الندوة، إن لم تكن أولها، قصيدة الشاعر سليمان العيسى التي اخترت منها ما يأتي:
ضمي إليك بقايا بلبل غرد
يا عذبة الملتقى يا ندوة الأحد
طارت إلى أحاديث منمنمة
عن العطاش إلى سلسالك النجد
إلى الكروم التي تزهو وقد صدحت
فيها العناقيد ولم تبخل على أحد
يطوف راشد بالأغلى على نفر
من أهلنا يا للبيت بالوفا ندي
وقد أجاد الشاعر الموهوب، والصديق الفاضل، والزميل القدير، الدكتور حيدر الغدير عندما أجمع الأمر في ديوانه الموسوم (من يطفئ الشمس) واصفاً حسن هذه الندوة:
لأنك الحسن في فضل وفي غيد
وأنك النبل في عز وفي رغد
أدمنت عشقك في حلي ومرتحلي
يا حلوة الملتقى يا «ندوة الأحد»
يداك تمتد تدعوني تعانقني
شوقاً فتسبقها نحو العناق يدي
ويتابع الدكتور الغدير هذه القصيدة التي أجتزئ منها ما جاء في حق عميدها الدكتور راشد المبارك ما يأتي من أبيات:
ونبل راشدها وهو الحفي بها
يقتادها نحو آفاق من الرشد
سما بها فسمت وانهل صيبها
أصفى من المزن في نيسان والبرد
كأنها وهو يوليها عوارفه
سرادق بالمروءات الكبار ند
كما وصف الدكتور الغدير حال الندوة حين تنعقد، وحال ضيوفها أو روادها الأجلاء، فقال في بعض أبيات هذه القصيدة التي اخترت منها ما يأتي:
المنتدوها نجوم زانهن حجى
وزانهن جلال النبل والصيد
فإن أردت الهدى فيهم ظفرت به
وإن أردت الأذى والإثم لم تجد
ينفض سامرهم والشوق يملكهم
ويومئ اليوم مثل الأمس نحو غد
يأتونها في خطى عجلى فإن ذهبوا
ساروا إلى دورهم في خطو متئد
أعزائي: إن رحلتي معكم في أعماق الدكتور راشد المبارك - رحمه الله - ما هي إلا غيض من فيض، وإن ما سطرته في هذا المقال ما هو إلا جهد المقل، وعذري فيه أن ما لا يدرك كله لا يترك جله. وأملى أن تكونوا قد استمتعتم بالرحلة معي في أعماق الدكتور راشد المبارك الذي مذ عرفته أكثر من ربع قرن وهو لم تغيره السنون وتقلبات الزمان ومباهج السمعة التي يحتلها محلياً وإقليمياً وعالمياً.. فهو ظل كما عرفته مذ أن لقيته أول مرة إنساناً كريماً، وعالماً متميزاً من الطراز الأول، وأستاذاً جامعياً بارعاً، ملك وجدان طلابه وقلوب زملائه، واستحوذ على عقولهم وأقلامهم التي ستظل تشهد له بالفضل والإحسان. إن الذكريات الطيبة التي أحملها للدكتور راشد المبارك - رحمه الله - والتي يتردد صداها في جنبات الأماكن التي جمعتني مسيرة الزمان فيها به بتوفيق وتقدير من الله، وإنسانيته الفذة المفطورة على حب العلم والخير والإيثار والكرم والود والوفاء والنخوة والإباء، هي الزاد لعلاقتي به وقربي منه وازدياد محبتي وإكباري وتقديري له في الماضي والحاضر والمستقبل.
رحم الله د. راشد المبارك رحمة واسعة، وتغشاه بفضله وكرمه، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وثبته بالقول الثابت، وأنزله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
بقلم: أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير - أستاذ الجيوموفولوجيا والأساليب الكمية في الجغرافيا وعضو المجلس الاستشاري العالمي الأعلى بجامعة الملك سعود