لقد أكرمني المولى عز وجل بأن شرفتني الوالدة بأن تمضي السنوات السابقة معي في الغربة، لقد آثرتْ أن تفارق الأهل والأحباب... أن تفارق أرحامها وأقرباءها وأن تترك بيتها وعاداتها في أن تؤنسني في وحدتي، وكم كنت سعيداً حينما تحدثني عن طفولتها البريئة وصديقاتها اللاتي كانت تذهب معهن إلى الكتّاب، وكيف كان المرحوم محمد حسين أصفهاني يؤاذيهن... فتتبسم ثم تترحم على من مات منهم وتقرأ صورة فاتحة الكتاب على أرواحهم.
كانت تحدثني عن قرانها بوالدي -رحمه الله- وتتذكر كيف كانت والدة والدي تعاملها بكل حنان، كانت تحدثني عن والدتها التي لم تبلغ سوى 35 سنة من العمر، وكثيراً ما كانت والدتي تردد بأن أمها قد وحشتها وهي في شوق لرؤيتها خلال فترة تواجدي، في كنفها كنت أشعر بالبركة والطمأنينة قد حلت علينا... كيف لا وهي التي كانت تقوم الليل لتصلي ما قدر الله لها أن تصلي ثم تستغفر الله العلي العظيم وتسبحه، وكم مرة أجدها ساجدة لله إلى أن يحين وقت صلاة الفجر، وبالرغم من أن لديها منبهاً إلا أنها كانت أشد ما تحرص عليه أن أصلي الفروض في أوقاتها، فبينما كانت تصلي واقفة خلفي أنهكها المرض اللعين فرضيت بما قسمه الله لها، كانت تجلس على الكرسي المتحرك وأخذ نور بصر عينها اليسرى يخبت وإذا بها تحاول أن تخفف عني بأن قالت الحمد لله لا زالت تستطيع قراءة القرآن الكريم بعينها اليمنى، وإن كانت ذلك يرهق عينها كثيراً إلا أنها كانت صبورة، كان القرآن ونيسها، ولقد أخبرتني بأنها كانت تحفظ بعض صور القرآن الكريم عن طريق حفظها بدأت تعلم نفسها القراءة والكتابة، كانت -رحمها الله- ذكية جداً بحيث تعلمت الحروف اللاتينية وتقرأ بعض الكلمات الألمانية بيسر وسهولة، ناهيك عن حلمها المعهود ولطفها وعطفها المشهود لها للصغير قبل الكبير، كانت إذا اشترينا أي فاكه أو حلوى تقسمها بحيث يحصل العاملات بالمنزل قبل أن نأكل نحن منها، كانت -رحمها الله- تقوم بتوزيع الخير على الضعفاء ولا ترتاح إلا بعد التوزيع، حتى وهي في ألمانيا كانت لا يهدأ لها بال إلا بعد ذلك، كانت تتحدث مع الكبير بلغته ومع الصغير بطريقته فأسرت قلوب الكثيرين بعطفها متأسية -رحمها الله- بقول طه صلوات الله وسلامه عليه «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو تلقى أخاك بوجه طليق»، كانت تحمل قلباً عطوفاً يتفاعل مع مشكلات الآخرين، إذ إنها -رحمها الله- كان مشهود لها برجاحة العقل وتغلبها للعقل على العاطفة وتضع نصب عينيها مراقبة الله لتسهم في حل مشكلات الآخرين.
لقد نامت قريرة العين حيث حان أجلها المحتوم فلم يتأخر ساعة ولم يستقدم، وفارقت -رحمها الله- هذه الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له. فلله ما أعطى ولله ما أخذ ولا نقول إلا ما يرضي الرب، خطفت يد المنون أحنّ إنسانه عليّ... فهي التي حملتني في أحشائها تسعة أشهر، كانت تشتري لي حينما -كانت بصحتها- ما أحب من الفواكه، وكانت حريصة كل الحرص على أن توفر كل شيء حتى لا ترهق ميزانيتي، كانت تصر على أن تدفع الكرسي المتحرك الجالسة عليه خادمتها حتى لا أتعب بينما كنت أنافس الخادمة لأكسب شرف أن أدفع الكرسي الجالسة أمي عليه، كانت لا تمد يدها على الطعام خوفاً من أن تلتقط ما كنت أرغب فيه فكنت أحرص على وجود أصناف عدة من الطعام، كانت لا تأكل إلا بعد عودتي من العمل حتى كهولتي كان لا يهدأ لها بال إلا بعد عودتي إلى المنزل... أنها ست الحبايب... أمي.
في أواخر أيامها وبعد فقدانها البصر في عينها اليسرى اشتد المرض عليها، كانت تكتفي بنصف كوب من الشوربة ومع ملعقتين من الأرز، وكانت زاهدة في هذه الحياة لا تأكل إلا لأخذ الدواء ولا تقرأ الصحف وهي التي كانت تقرأ كل كلمة في كل مقال، وزعت جميع زينتها وأعدت كفنها منذ أمد طويل، كانت تتحاشى أن تحدثني عن قرب انتقالها إلى الرفيق الأعلى حرصاً على مشاعري حيث أنني كنت أقبل رأسها حينما أدفع الكرسي الجالسة عليه وأقبل يدها اليمين وأقبل قدميها وهي نائمة حتى لا أزعجها، وبينما كنت أقبل يديها كانت تقبل رأسي وتقول (الله يرضى عليك في الدنيا والآخرة) فتنهمر الدموع من عيني لأني سوف أفتقد دعاءها بعد وفاتها.
إن للأم مكانة عظيمة عند الله وخير دليل على ذلك ما كتب في الأثر:
1 - طلب نبي الله موسى من ربه أن يريه رفيقه في الجنة فأوحى له العزيز العليم بأن الرجل الذي سيأتي من على التل الأيمن، وإذ بموسى يشاهد رجلاً عليه ثياب بالية، أغبر الشعر، يحمل في يده جراباً جلدياً وبعض الحطب، فتبعه موسى عن بعد حتى لا يشعر به الرجل، وإذا بالرجل يدخل أطلال بيت مهجور، فتبعه موسى عليه السلام ليجد الرجل يوقد ناراً وينفخ حتى أن لحيته قد غمرها الدخان، ثم أخذ يطعم العجوز التي لاحظها موسى عليه السلام، وبعد أن أطعمها أخذ يروح لها حتى نامت فأكل ما تبقى في الماعون وذهب في سبيله. راقبه كليم الله لمدة ثلاثة أيام بلياليها فوجده يؤدي الصلوات في أوقاتها إلا أنه لا يقوم بأعمال تقربه إلى الله مثل الصوم سوى شهر الصوم، لا يتصدق ولا يقوم بأعمال الجهاد، ولم يقدر نبي الله من ذوي البأس أن ينتظر أكثر من الأيام الثلاث فأستوقفه ليسأله عما يعمل، فأخبره بأنه حطاب يقوم بجمع الحطب ثم يبيعه ومن قيمة ما باعه يشتري طعاماً لوالدته فيطعمها ثم يسهر على راحتها حتى تنام، فإن بقي من الطعام شيء أكله وإن لم يبق شيء يحمد الله أن والدته قد أكلت.
2 - كلنا نعرف أن الصحابي الجليل عبدالرحمن ابن عوف من العشرة المبشرين بالجنة، ففي إحدى الليالي نادته أمه فقال: نعم إلا أنها لم تسمع صوته لثقل سمعها، فنادته مرة أخرى فرفع صوته صائحاً بنعم فشاحت أمه بوجهها مستنكفة أن يصيح ابنها في وجهها، فصام الذي باع الدنيا في سنة العسرة حينما عرض عليه تجار المدينة أن يشتروا منه ما أحضرته القافلة القادمة إلى المدينة فكلما زادوا له في السعر كان يجيبهم بأن من اشترى القافلة دفع أكثر ثم وهب ما تحمله القافلة للفقراء والمساكين، صام الصحابي الجليل أربعين يوماً فلما بلغ الخبر الهادي البشير تبسم وقال «لقد أفلح عبدالرحمن بن عوف بصومه هذا وإلا حرمت عليه رائحة الجنة».
3 - بلغ الرسول أن أحد الصحابة قد حان أجله إلا أن روحه لا زالت حبيسة في جسده، فزاره الرسول وأخذ يقرأ عليه إلا أن الروح ظلت حبيسة في جسده، فسأل الرسول أهله إن كان راضياً في والديه؛ فأجابت زوجته بأن والدة هذا الصحابي غاضبة، فأرسل الرسول عمر بن الخطاب ليطلب منها أن تصفح عن ابنها إلا أنها رفضت، فطلب الرسول أن يأتوا بها إلى الدار فلذة كبدها، وما أن رأت ولدها ينازع وتأبى روحه أن تخرج إذ بوالدته تشهد الرسول ومن معه من الصحابة بأنها قد صفحت عن ابنها وإذ بروح ابنها تخرج من جسده كقطرة ماء.
4 - وهناك قصة أخرى تبين مكانة الوالدين بعد الحساب ودخول أهل الجنة ما وعدهم به الحق، وسقوط أهل النار -والعياذ بالله منها- في سقر، يسمع الحبيب المصطفى أنين من يحرق جسده في جهنم فيذهب الرسول إلى مالك ويطلب منه أن يفتح له باب جهنم فيجيبه مالك بأنه به أؤتمر ويفتح له باب جهنم فيرى صغاراً وكباراً يصيحون من شدة الألم، فيعود الرسول إلى الجنة ويسجد تحت العرش فيناديه المولى جلت قدرته أرفع رأسك يا محمد واشفع تشفع، فيتوسل الحبيب بأن هؤلاء الذين تحترق أجسادهم من أمته فيجيبه الحق بأن هؤلاء كانوا عاقين بوالديهم وأن الحق لن يشفع عنهم إلا بعد أن يصفح عنهم والديهم، ويطلب الرسول الله أن يعرفه عليهم ثم يأخذهم الرسول ليشاهدوا أبناءهم وبناتهم يصيحون من شدة الألم، فتحن قلوبهم ويصفحوا عنهم فيعود الهادي البشير ويسجد تحت العرش طالباً الشفاعة لهم، فيقول الحق الآن وبعد صفح عنهم والديهم شفعت عنهم، فيغتسلوا بماء الحياة ثم يدخلون الجنة.
5 - وكلنا نعرف الحديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات).
6 - والحديث الآخر للصادق الأمين: أمك، أمك، أمك، ثم أباك.
ودليل آخر على مكانة الوالدين أنه إذا ما أسترد المولى جلت قدرته وديعته ومات الوالدان أقفل باباً من أبواب الجنة بانقطاع دعائهم لابنهم، فليس فقط نفقد من يحبنا أكثر من نفسه ومن يؤاثرنا على نفسه بل حتى قبول دعائهم يُقفل.
إن وفاتها مؤلم لمشاعري.. وغصت الحناجر.. واكفهرت الوجوه.. وعجم على الألسن، فالموت حق وكأس كلنا شاربوه، إلا أن الموت حتى وإن كان حقاً إلا أنه يؤدي إلى حسرة القلب حتى الدموع جفت في مآقي العيون، وشخصت الأبصار، لقد أغشتني سحب الحزن بوفاتها.
عند فراق أحب الناس علينا في هذه الدنيا يدرك كل مؤمن أنه قد فقد من يحب لحظات عبور العمر ولكنه يتطلع إلى لقائهم بأمل كبير بالله في دار البقاء عند مليك مقتدر.. كل الآلام والمصائب مقدرة وكائنة.. لقد اعتادت الدنيا أن تعطينا لتأخذ منها وتسرنا اليوم لتحزننا غداً، ولقد كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: «إذا أقبلت الدنيا أدبرت»، فماذا نصنع والقضاء بنا نازل والموت حكم شامل هل نجزع؟ أم نرتاع؟ أم نرفض أن نتقبل - لا سمح الله - قضاء الله وقدره..؟ حاشا لله وكلا، فالمسلم المؤمن هو الذي إذا إصابته مصيبة قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِين، الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} صدق الله العظيم.
اللهم اغفر لها مغفرة جامعة تمحو بها ما سلف من أوزارها وارحمها رحمة تنير لها المضجع في القبر وتأمنها بها يوم الفزع الأكبر عند النشور إليك.. اللهم ما تلت من قرآن فزكها به.. وما صلت من صلاة فتقبلها منها.. وما تصدقت من صدقة فنمها لها.. وما عملت من أعمال صالحة فارض عنها، وأنت يا رب أولى بالبر من البارين وأحق بالوصل من المأمورين.. اللهم أقل عثرتها.. واغفر عن زلتها وعدها بحلمك فإنها لا ترجو غيرك ولا تثق إلا بك.. وأنت واسع المغفرة وليس لدى خطيئة منك مفر.. فمن كان الموت موعده والقبر بيته والثرى مسكنه والدود أنيسه فكيف تكون حالته؟ اللهم اغسلها بالماء والثلج والبرد ونقها من الخطايا والآثام كما يتنقى الثوب الأبيض من الدنس وأنزلها داراً خيراً من دارها وأسكنها أهلاً خيراً من أهلها وثبتها بالقول الثابت عند السؤال وأبعد عنها الشجاع الأقرع.. اللهم لا تضيق قبرها واجعله روضة من رياض الجنة لا حفرة من حفر النار.. اللهم اجعل عملها الصالح أنيسها في قبرها.. اللهم اغفر وارحم واعفو عنها إنا لقضاء الله رضوان ولأمره ممتثلون ولا نقول إلا ما يقول المحتسبون: إن لله ما أخذ وله ما أعطى ولا نقول إلا ما يرضي الرب {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
ولنا في رسول البشرية طه صلوات الله وسلامه عليه القدوة الحسنة حيث قال حين وداعه لفلذة كبده إبراهيم «إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون».
إن الألم كبير إلا أن إيماننا أكبر من آلامنا، وإن الله عز وجل كفيل بزرع مطر الصبر ونعيم الرجاء وراحة النفس.. اللهم أنزل علينا سكينتك وابعد عنا نزغات الشيطان وثبتنا بإيماننا.. وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً، واجمعنا بها يوم التلاقي عند مليك مقتدر.
والسلام عليكم يا أماه يوم ولدت ويوم مماتك ويوم تبعثين حية ورحمة من الله تعالى وبركاته.
أسامة بن عبدالمجيد شبكشي