ثمة بهجة خاصَّة تطوف بنا حين نسمع طفلاً يتحدَّث بالعربيَّة الفصحى متأثـِّرًا بنموذج مشوِّق اتصل به عبر التلفاز، هذه البهجة تدفن في ثناياها بعض مخاوفنا؛ فالمنظر الآسر يغدو كذلك لأنـَّه قلَّما يتكرر في زمن انحسر معه العادي، وما هو مفترض أن يكون ليغدو موقفًا يستحقُّ التأمُّل، ولحظة نادرة نرويها مثل قصَّة خرافيَّة، أو نتداولها صورة، وصوتًا عبر وسائل التواصل كما لو كانت معجزة!
لا يعرف الطفل الذي يدندن بالفصحى شيئًا عن مخاوفنا، ولا عن الندوات، أو المقالات التي تدبَّج لامتداح العربيَّة، إنَّه يتفاعل بطبيعته الطفوليَّة مع برنامج، أو أنشودة محبَّبة، يمتصُّ هذا المتاح المتوفِّر، هي مصادفة أن يكون هذا المتاح له عربيًّا يذكِّرنا بحلاوة العربيَّة على اللسان الغضِّ، ويمكن لمصادفة أخرى أن تجعل لسانًا غضًّا يتحدَّث بغير العربيَّة، وقد تبدو هذه الرطانة تمدُّنًا تسعى إليه بعض الألسنة العربيَّة بخطوٍ حثيث!
إنَّ (ملتقى اللغة العربيَّة والطفل) الذي ينظِّمه كرسي بحث صحيفة الجزيرة واحد من ملتقيات عدَّة حرص الكرسي من خلالها على تسجيل حضور العربيَّة لغة حيَّة، وممكنة في كلِّ نواحي الحياة، ويطرح الملتقى قائمة من الأساليب التي يسعنا من خلالها تقديم العربيَّة للطفل، العربيَّة التي صار هاجس غيابها عن لسان الطفل العربي هاجسًا يؤرق كثيرًا منَّا، كما يحتفل الملتقى بتجارب رائدة في مجال تعليم العربيَّة للنشء.
إنَّ وعي الطفل وعيٌ نقيٌّ من هواجس الخوف، ومتخلِّصٌ من القلق على مستقبل العربيَّة، إنَّه الأرض المناسبة لتمثُل العربيَّة في نقائها الأوَّلي، ولا توجد حصانة تحمي العربيَّة أكثر من حصانة تمكُّنها في اللسان، يمكننا أن نملأ عقل الطفل بقائمة مخاوف من التغريب، وسيطرة العجمة، لكن التحقُّق المثالي لأحلامنا المتعلِّقة بالعربيَّة يكون حين يقودنا هذا الخوف إلى الفعل، وإلى إنجاز ما يمكن كي لا يعود الخوف طائفًا بساحة العربيَّة، إنَّ الخوف الذي لا يقودنا إلى قتل نفسه هو مجرَّد مرض ينهكنا، ولا يوصلنا إلى شيء!
نحبُّ أن تكون العربيَّة هي لسان صغارنا، وأن تكون مصدر افتخارهم مهما تقاطعت مع أيِّ لغة أخرى؛ فالعربيَّة لم تكن يومًا قيدًا يمنع الالتقاء بالآخر، ولعلنا نتذكَّر منذ عقود قليلة كيف كانت فكرة تغوُّل العولمة تحوم في أفق ثقافتنا، ومعها التهديد بانحسار العربيَّة، وذوبانها في طوفان الإعلام الجديد، لكننا حين ننظر -بعين متفائلة- للواقع نجد أنَّ قوَّة حضور العربيَّة قوَّة لافتة؛ إنَّنا نحصل على نسخنا المعرَّبة من برامج التقنية، وتطبيقاتها، نسخ غير منقوصة: تحتفل بالتشكيل، بل وتشبع افتتاننا بجمال الخطِّ العربي، كلُّ ذلك يقول بطريقة ما: إنَّ الإرادة تصنع الطريق، وإنَّ علينا أن ننتقل من القلق على العربيَّة إلى مرحلة جعلها لغة رائدة، لا يقفُّ همُّنا عند الدفاع عنها، بل يذهب إلى جعلها منافسة للغات التي تسيطر على لسان العالم، تملك العربيَّة مقومَّات الحضور الذي يفي بمتطلبات العصر، وهي قادرة على المزاحمة، تحتاج منا إلى تقديمها بالشكل الأمثل، إلى تعليمها كما ينبغي لمقامها، إلى القيام بما يجب علينا، ثمَّ نتوكَّل!
د. سهام صالح العبودي - أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن