تؤكد الدراسات والتجارب المعاشة أن للغة أثرا بالغا في تشكيل الهوية والانتماء، فهي ذات وماهية وحقيقة أية جماعة، واللغة وعاء الثقافة، والثقافة تطبيق وترجمة للهوية، وكلما كانت اللغة أكثر اتصال بثقافة الشعوب كانت أقدر على تشكيل هوية الأمة وحملها كما يذكر كثير من الباحثين.
ويتصل بهذه القضية ما نشهده من مناداة وتطبيق لتعليم اللغة الأجنبية وبالذات اللغة الإنجليزية بوصفها اللغة العالمية الأولى في المراحل التعليمية الأولى سواء فيما يسمى بالمدارس العالمية التي تعتمد على ثنائية اللغة، أو في تجربة تعليم اللغة الأجنبية وما رافقها من تعثر في التطبيق.
إننا ندرك أهمية التعليم الأجنبي في المجتمعات خاصة أن العالم الآن أصبح قرية صغيرة، لكننا لا بد أن نعترف أيضا أننا أمام أهداف وأغراض لا يمكن أن نتجاهلها حتى وإن تسترت وراء المدارس والجامعات والمناهج التعليمية.. وأننا أمام صراع لفرض ثقافة واحدة في ظل منظومة العولمة، ومحاولة لطمس هوية الشعوب أو إذابتها..
وتعليم اللغة الأجنبية لتزاحم اللغة الأم إحدى هذه الوسائل لكن العجيب أننا لم نستفد من التجارب العالمية ونعيد الأخطاء وتطبيقها.
يذكر د. إبراهيم الحارثي في دراسته (تأثير التعليم ثنائي اللغة على اللغة الأم) حقائق مقلقلة ونتائج يجب التنبه لها فالتعليم (ثنائي اللغة) والتعليم (متعدد اللغات)، ودراسات تأثير اللغة الثانية على الأولى، سبب لإماتة اللغة الأولى وقد أكد ابن خلدون في مقدمته حيث قال: «إذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصراً في اللغة العربية، وذلك أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقلّ أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى... وأن الناشئ من الجيل اختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة...» (المقدمة، ص455).
هذه الملكة الناقصة تؤدي إلى العجز اللغوي وفقدان القدرة على الإبداع الفكري عند بعض الأفراد أو الاختناق اللغوي والاختلاط اللغوي عند فئة أخرى والتدهور والتآكل اللغوي في اللغة الأولى.
ويذكر أن تعليم اللغات الأجنبية يبدأ في الاتحاد الأوروبي في نهاية المرحلة الابتدائية أو بداية المرحلة الثانوية غالباً، ما عدا مالطا حيث يبدأ تعليم اللغة الأجنبية فيها من سن السادسة وفنلندا حيث يبدأ من سن العاشرة.
أما تعليم اللغة الإنجليزية في دول الاتحاد الأوروبي فيبدأ في المرحلة الثانوية الدنيا غالباً وأحياناً في المرحلة الثانوية العليا، ويتعلم 93 في المائة من طلاب الاتحاد الأوروبي اللغة الإنجليزية، بينما يتعلم 33 في المائة من الطلاب في الاتحاد الأوروبي اللغة الفرنسية التي يبدأ تدريسها في المرحلة الثانوية الدنيا (المرحلة المتوسطة)، ويدرس اللغة الألمانية 13 في المائة من طلاب الاتحاد الأوروبي في المرحلة الثانوية الدنيا، ويدرس 20 في المائة من الطلاب اللغة الألمانية في المرحلة الثانوية العليا.
في أمريكا معظم المدارس في نظام التعليم في الولايات المتحدة تدرس اللغة الأجنبية في المرحلة الثانوية، وفي بعض المدارس تدرس اللغة الأجنبية في المرحلة المتوسطة.
تراجعت الفلبين عن التعليم ثنائي اللغة بعد 37 عاما من تطبيقه حيث كانت المواد الدراسية تدرس باللغة الإنجليزية لا باللغة الأم.
السؤال الموجه للقيادات التربوية لماذا نعمل على إماتة لغتنا الحية لإحياء لغة أخرى بناء على زعم -لم يصدق- مفاده أنه لا يمكن تعلم العلوم إلا بها، مغمضين أعيننا عمن حولنا من الدول التي تعلمت بلغتها مثل: الصين واليابان وروسيا وإيران وتركيا وألمانيا وكل العالم؟!
د. هيلة عبدالرحمن المنيع - أستاذ الأدب والنقد الحديث بكلية الآداب جامعة الأميرة نورة