التذكير بنعم الله علينا, والتناصح فيما بيننا, له دورٌ كبيرٌ في تنبيهِ الغافل وتذكير الناسي, وبعثٌ لهمم القارئ والكاتب والمتكلم لمزيد من الاهتمام بما نحن فيه من خيرات, وأمن ومسرَّات, وتفكرٌ بما كان عليه الآباء والأجداد من قلّة ذات اليد والجوع التي ليست عنا ببعيدة, حيث مضى عليها عقودٌ من السنوات قد لا تتجاوز عشرة, وكيف آلت إلينا خيراتٌ كثيرةٌ وأنواعٌ متعددةٌ في رخاء وعافية وسلامة واطمئنان, مما يجب علينا المحافظة عليها حتى لا تزول.
ألم نَرَ الأحداثَ والبلايا والرزايا المتعاقبة, تموج من حولنا, ونبرأُ إلى الله من حولنا وقوتنا, أمَّدنا بالأرزاق والأقوات, ومنَّ علينا بجزيل العطايا والهبات, وكسانا أحسن كساء, نأوي إلى بيوت كالقصور, ونأكل من أطيب الثمار, والخيرات تأتينا رغداً من كل مكان, ونحن بأمان الله مطمئنون, والشاكر منا قليلون, نصنع من الموائد أكثر مما نأكل, حياءً أنْ يقال: صَنعَ طعاماً لا يكفي المدعوين, والفائض من الطعام لم يعد يقبله كثير من الناس, فيكون حقه أنْ يرمى, والمحظوظ من وجد بهيمةً أو حيواناً يأكل ذلك الفائض, فالواجب علينا الاقتصاد في الموائد, فطعام الاثنين يكفي الثلاثة, ففي الاقتصاد شكرٌ للنعم فتدوم علينا, وفي الزيادة عن الحاجة تبذيرٌ وإسراف, أما نخشى زوالَ نعم الله وحلول نقمه إلينا, ولعلَّ بيننا من يذكر شيئاً عن الآباء والأجداد من الجوع الذي مرَّ على بلادنا, فمنهم من تقدَّدت أشداقهم من أكل نبات الأرض مما لا يُستساغ أكله في هذا الوقت, وذكرَ بعضهم أنَّ منهم من مات جوعاً, أو كاد أنْ يموت, فيمنُّ الله عليه بمن يعطيه تمرة ينجو بها -بإذن الله- من الهلاك, أما ذكر لنا الآباء عن أناس أكلوا الكلابَ والحميرَ والجيف, أيامٌّ مرَّت على أجدادنا فيها من الجوع وقلَّة ذات اليد ما جعل كثيراً من الناس يسافرون إلى العراق والشام والهند طلباً للرزق, وكثيرٌ منهم استقر هناك ذلك الوقت, وكيف كانوا حينها في هذه البلاد من فرقة وتشرذم وحروب وغارات, وكيف كانوا يقاسون مرارة العيش والقحط؟! فلله الحمد والشكر على اجتماعنا بعد الفرقة, وأمننا بعد الخوف, وشبعنا بعد الجوع, فلنعتبر بذلك الزمن بما نحن فيه, وكيف صيَّر الله حالنا إلى الرخاء وكثرة النعم, وكيف أنَّ الناس يفدون إلى هذه البلاد -حرسها الله- من جميع أقطار الدنيا طلباً للقمة العيش, يأتون إلينا من الشام واليمن والعراق والهند والباكستان ومصر والمغرب والسودان وغيرها من البلدان, فلنتدارك ما نحن فيه من الخيرات والأرزاق بشكر الله عليها, وتقديرها حقَّ قدرها, فلله الحمد ما أكثر نعمه علينا, وإلى الله المشتكى ما أقلَّ الشاكرين فينا, ولقد ركَنَ بعض الناس إلى الدنيا فنسوا دينهم, واغترَّ من اغترَّ فيها فلها وسها, وعصى وطغى, كسلٌ عن الصلاة في المساجد مع الجماعة, رغبة في الدعة والراحة, ولو صلى الناس في المساجد لامتلأت بهم مساجدهم, ولعمروها بذكر ربهم, لكنَّ الكسل أخلدهم إلى الصلاةي مساكنهم, وهجرَ أقوامٌ القرآن فلا يتلونه إلا في رمضان, وبخل من بخل بالصدقة على الفقير والمسكين والأرملة واليتيم, حرموا أنفسهم فضلاً لا يبلغونه إلا بالصدقة, ومن الناس من عتا فظلم وطغى وأكل المال الحرام من الربا والرشوة وغَلَّ غلولاً من بيت المال, واغتصب حقوق غيره فأخذها قهراً وجوراً, طمعاً في الدنيا وإخلاداً إليها, فلنراجع أنفسنا ولنحاسبها على ما نحن فيه من منن عظيمة, هل أدينا حقها فشكرنا الله عليها؟! أم تهاونَّا فلم نرها شيئاً يستحق الذكر والشكر؟! إنَّ الواجب علينا ونحن نعيش في هذه الفتن التي رمتْ بشررها فأشعلت الحروب من حولنا, مدنٌ دكَّت, وأبرياء سفكت دماؤهم, ونساء ترملت, وأطفال تيتموا, وملايين تشردوا, فمنهم من مات جوعاً, ومنهم من مات كمدا وقهرا, ومنهم من مات تعذيبا وتمثيلا, ولا ناصر لهم إلا الله, فإلى الله نشكو ضعفنا وقلة حيلتنا, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, فيجب علينا أنْ نلتفَّ حول أئمتنا وولاة أمرنا وعلمائنا, ولنزدد التحاماً واجتماعاً وتآلفاً وتناصحاً متبعين في ذلك هدي الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة, ففي ذلك قوة لنا ودحر لأعدائنا, وتفويت للفرصة على المحرِّضين الذين يطعنون في أئمتنا من الولاة والعلماء, بشُبه أضرمَ نارها الأعداء, ونفخ فيها السفهاء, فعلينا ألا نلتفت لدعاة الفتنة الذين يزيِّنون المظاهرات والخروج على الولاة, ويجب الأخذ على أيديهم؛ دفعاً لشرهم وكيدهم ومكرهم, لا كثَّرهم الله, ونحمد الله أنَّه لا يزال فينا من يُذكِّرنا هذه النعم من ذوي الألباب من كبار السن ومن الناصحين -جزاهم الله خيرا- الذين تسعد بهم النفوس, وتبتهج بهم المجالس, ربنا زد بلادنا أمناً إلى أمنها وقوة وإلى قوتها, وزدها تآلفاً وتناصحاً وتعاوناً على البر والتقوى, واجتماعاً على الحق, واجمع بها كلمة المسلمين على الحق, إنَّك سميعٌ مجيبٌ.
- خطيب جامع بلدة الداخلة (سدير)