فضل بن سعد البوعينين
أيهما مقدَّم على الآخر، الأمن القومي أم الاستثمارات الأجنبية؟ سؤال لا يحتاج إلى إجابة؛ فالأمن والاستقرار لهما الأولوية، وهما الضامنان - بعد الله - لتدفق الاستثمارات، وتحقيق أهداف التنمية، وبناء الإنسان والمكان. تُركز الدول الكُبرى على فحص الاستثمارات الأجنبية، والتحقق من أهدافها وانعكاساتها قبل السماح لها بالدخول، وقد تتخذ قرارات مُخالفة لأنظمتها التجارية والاستثمارية والقوانين الدولية متى رأت مخاطر مستقبلية يمكن أن تهدد أمنها القومي.
الانفتاح الاستثماري في الولايات المتحدة الأمريكية، وقدرتها على مواجهة المخاطر، والرد بعنف على كل من يهدد أمنها، لم يمنع الكونجرس الأمريكي من مواجهة صفقة إدارة شركة «موانئ دبي العالمية» لعمليات الشحن والتفريغ في أكبر ستة موانئ لديها، على الرغم من عدم وجود التهديد الحقيقي، أو المخاطر المتوقعة. نجح الأعضاء الجمهوريون والديمقراطيون في الضغط على الرئيس الأمريكي لإفشال الصفقة ذات البعد التجاري الصرف تحت ذريعة «الأمن القومي».
أغلقت السلطات الأمريكية مصارف عالمية، داخل أمريكا وخارجها، ونجحت في تفكيك شركات استثمارية كبرى لأسباب مرتبطة بأمنها القومي. وبالرغم من الحرية الإعلامية في مجتمعها المنفتح إلا أن سلطاتها الأمنية تمارس دوراً محورياً مستتراً في ضبط مخرجات الإعلام المتعارضة مع أمنها الوطني، وتتحكم بنوعية القنوات التي يسمح لها بالبث من خلال (الكيبل) الأمريكي.
الاستثمارات الإعلامية باتت إحدى قنوات الاستثمار الخطرة، التي تحتاج إلى تمحيص دقيق قبل السماح لها بالدخول؛ فانعكاساتها المؤثرة على الدولة الحاضنة والدول الأخرى قد تجعلها من الاستثمارات غير المرغوب فيها. الاستثمار في القنوات الإخبارية لا يمكن أن يرتبط بالعوائد المالية؛ فغالبية القنوات المشهورة عالمياً وإقليمياً لا ترقى للوصول إلى نقطة التعادل المالي، عوضاً عن قدرتها على تحقيق الأرباح؛ ما يجعلها في حاجة دائمة للدعم الكبير من ملاكها، أو جهات خارجية وفق اتفاقيات خاصة.
لذا يمكن استبعاد هدف الأرباح المالية من الاستثمار في القنوات الإخبارية؛ ما يرفع من حجم المخاطر القومية التي قد تتعرض لها الدولة الحاضنة إذا ما تركتها تمارس دورها المنفلت وغير المسؤول. يزيد حجم المخاطر في حال تبعية القنوات لأطراف وطنية غير مدركة لأهمية الأمن الوطني.
الإعلام التقليدي والحديث بشكل عام، والقنوات الفضائية على وجه الخصوص، أشبه بالجيوش التي تخوض معارك طاحنة دون عُدد عسكرية، غير أنها قادرة على حمل البشر على الاقتتال فيما بينهم، وإراقة الدماء، وإشاعة الفوضى في الدول المستهدفة. لم تكن الولايات المتحدة قادرة على غزو العراق وضرب أفغانستان وتفتيت الدول العربية لولا استثمارها الاستخباراتي المهول في الإعلام والقنوات الفضائية الموجَّه للداخل والخارج. ولم تستطع وكالات الاستخبارات الغربية من خلق «داعش»، وتضخيمها، وفرضها على العالم، وقبلها القاعدة والنصرة وغيرها لولا الإعلام الموجَّه، وصناعة الأخبار والأفلام الاحترافية.
نجحت الاستخبارات الغربية في تجنيد مخرجين، مصورين، تقنيين، ومحترفي إعلام مع غالبية جماعات الإرهاب المتوشحة بالدين، ووفرت لهم تغطيات إعلامية غير مسبوقة، من خلال الإعلام الموجه لخدمة أهدافها الاستخباراتية.
أعود إلى حقبة ظهور القاعدة، وتنفيذ عملياتها في السعودية، وما وجدته من تغطيات إعلامية استخباراتية، أسهمت في إضفاء الشرعية عليها؛ ما ساعد على توسعها، وحصولها على الدعم المالي، وانضمام كثير من الشباب لها. اجتهد عملاء الاستخبارات الغربية والصهيونية، ممن ظهروا بمظهر الخبراء والإعلاميين، في تصوير ما يحدث في السعودية آنذاك على أنه معارضة للحكم، أو مطالبة بالحقوق، أو جزء من «الجهاد الشرعي»، وهو ما تسبب في إراقة الدماء وتدمير الممتلكات، واستهداف الاقتصاد ورجال الأمن وتهديد المواطنين. شكل الإعلام الاستخباراتي جيشاً يفوق في قوته الجيوش النظامية، وقدم للأعداء خدمات كبيرة لم يكونوا قادرين على تحقيقها لولا تلك القنوات القذرة.
تجارب منطقة الخليج مع الإعلام الاستخباراتي المأجور، والموجه، أو القنوات الخاضعة لأهداف تدميرية، انتقامية، تجعل دولها أكثر حرصاً على ضبط الاستثمارات الإعلامية المقامة على أراضيها، وبما يتوافق مع الأهداف القومية، ويضمن في الوقت عينه أمنها الوطني.
أكذوبة «حرية الإعلام» لم تعد تنطلي على العقلاء، وتهديد وقف الاستثمارات لن يمنع الدول المتضررة من إزالة المخاطر المتوقعة وحماية أراضيها من التهديدات المستقبلية. حاجة دول الخليج للأمن مقدَّمة على حاجتها للتدفقات الاستثمارية، وإن كان هناك من يعتقد بقدرته على تغيير القرارات الأمنية من خلال وقفه الاستثمارات فإننا نؤكد أن أمننا القومي ليس سلعة للمساومة، ونؤمن موقنين بقدرة الله على فتح أبواب السماوات لعباده بالرزق والبركة، وهو القائل {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}.