لأول وهلة يبدو الحديث عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - طيَّب الله ثراه - سهلاً ميسوراً، وبمجرد البدء في الكتابة يتبدد هذا الانطباع وتصبح المهمة ليست بهذه السهولة، الكتابة عنه - رحمه الله - من باب السهل الممتنع، سهلة كون ما يمكن الكتابة عنه كبير العدد، كثير التنوع، بالغ الأهمية لم يترك فقيد الوطن والأمة أمراً نصيراً للإسلام، مفيداً للوطن إلا وكانت له البصمة المشهودة، وصعبة للسبب نفسه، يحتار المرء من أين يبدأ؟ وماذا يختار؟ وكيف يعطي ما يكتب عنه حقه من الاستقصاء والبحث والتحليل؟
بداية تجربتي في العمل المباشر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، كانت في نهاية الشهر الثاني من عام 1424هـ كنت وقتها نائب وزير المالية والاقتصاد الوطني ورئيس الفريق التفاوضي لدول مجلس التعاون مع الدول والمجموعات الأخرى، للوصول إلى منطقة التجارة الحرة مع هذه المجموعات والدول، وكنت عائداً للوطن من إحدى جولات المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي عن طريق بيروت، وما إن حطت الطائرة في مطار بيروت وقبل الصعود للطائرة الأخرى التي ستقلني للرياض، إلا وقد رن هاتفي وإذا بمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر - رحمه الله - يتصل ويبشرني بأن ولي العهد «آنذاك» الملك عبد الله بن عبد العزيز اختارني لوزارة النقل لتأخذني بعد ذلك المشاعر المختلفة كل مأخذ، مشاعر الفخر بالثقة الغالية، والخوف من الأمانة التي حملتها، والمسؤولية الكبيرة التي أرخت سدولها على كاهلي، لكن مشاعر الخوف والقلق تبددت بلقائي الأول به رحمه الله، هنأني بالثقة الملكية ووجهني بما يجب وقال لي في نهاية اللقاء (عد إليّ في كل ما يستعصي عليك). وكانت هذه الجملة مصدر اطمئنان لي جعلتني أشعر دائماً بأن لديّ سنداً أعود إليه بعد الله عندما تتفرق بي السبل.
كان التحدي الأول الذي واجهته تنفيذ طريق القصيم - حائل - الجوف السريع، اعتمد لهذا المشروع في الميزانية مبلغ محدد واختير له مسار معين، وعند التنفيذ اتضح أن تكلفة تنفيذ المشروع تزيد كثيراً على المبلغ المعتمد.
ولهذا توقف المشروع، ذهبت اليه - رحمه الله - أشرح له الوضع، وعرضت عليه مساراً آخر يزيد على طول المسار الأول ببضعة كيلومترات ويجعل التنفيذ في حدود المبلغ المعتمد، عرضت المسارين في خريطتين منفصلتين، وبدون تردد أخذ القلم وأشر على المسار البديل ووقع عليه، عدت إلى المكتب فرحاً، وفي اليوم التالي بدأ التنفيذ وأصبح الطريق من أهم الطرق في المملكة، وتوسعت شبكة الطرق المعبدة، زاد طولها من عام 1424هـ إلى 1435هـ بحوالي عشرين ألف كيلومتر، وأصبح الطول الكلي لها يزيد على اثنين وستين ألف كيلومتر بالإضافة إلى أكثر من واحد وعشرين ألف كيلومتر يجري تنفيذها حالياً، بعضها أوشك على الانتهاء، ونفذ برنامج شامل لهيكلة قطاع النقل أنشئ بموجبه هيئة النقل بالخطوط الحديدية، وهيئة النقل العام، وأقرت الاستراتيجية الوطنية للنقل، وصدر نظام النقل بالخطوط الحديدية، وأعد نظام النقل البحري، وفي عهده - رحمه الله - تطورت الموانئ كماً وكيفاً فزاد عددها واستقطبت كبار الشركات العالمية المشغلة للموانئ، حتى إن ميناء الملك عبد العزيز بالدمام أصبح الميناء الوحيد في العالم الذي يحتوي على أكبر شركتين مشغلتين للموانئ في العالم.
توالت التجارب فيما بعد بما لا يمكن حصره أو يتسع له المقام، عندما عرض مشروع النقل العام بمدينة الرياض على مجلس الوزراء المرفوع من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - بشكل متكامل عندما كان أمير الرياض ورئيس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض كان شديد الاهتمام بالمشروع، فلم يكتف بالموافقة عليه بل حدد مدة التنفيذ بأربع سنوات، وأمر بتنفيذ مشروعات مماثلة في المدن الأخرى ووجه بتخصيص مائتي مليار ريال لذلك، كان رحمه الله مدركاً لمشاكل النقل في المدن، ومدركاً للبعد التنموي البالغ الأهمية للنقل بالقطارات بين المناطق والمدن فوجه بتوسعة كبيرة تشمل ربط المناطق والمدن ومراكز التنمية بشبكة من الخطوط الحديدية، ويجري حالياً تنفيذ مشروعات للخطوط الحديدية تزيد أطوالها على ستة آلاف كيلومتر بعضها انتهى تنفيذه والبعض الآخر تحت التنفيذ.
في إطار اهتمامه بالحرمين الشريفين أمر بتنفيذ قطار سريع ربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وكان حرصه على المشروع شديداً، وبدأ التنفيذ، لم يكن المشروع سهلاً فهو أول قطار فائق السرعة ينفذ في المنطقة ويمر مساره بمختلف أنواع التضاريس ويخترق ثلاث مدن بما في ذلك الأحياء السكنية والمنشآت والبنية التحتية، وكانت التحديات عظيمة لكن مساندته القوية ذللت كل ما واجه المشروع من عوائق، لم تكن التحديات مقتصرة على العوائق التي تواجه مسار المشروع الذي يزيد طوله على 450 كيلومترا من مبان مأهولة وأودية وجبال وطرق وتمديدات للخدمات، وإنما أيضاً في اختيار القطارات وأنظمة التشغيل والشركات المصنعة باعتبار أن القطارات الكهربائية فائقة السرعة لم يسبق أن جربت في دول يشابه مناخها مناخ المملكة حيث الأتربة والرياح الرملية والحرارة الشديدة، وفيما بعد واجه المشروع تحدياً من نوع آخر يتمثل في المنافسة الشديدة بين الدول والشركات المصنعة لهذه الأنواع من القطارات، كانت المنافسة شديدة والضغوط كبيرة ليست فقط بسبب حجم المشروع وإنما أيضاً لأنه أول مشروع من هذا النوع ينفذ في المنطقة، وأهم من ذلك كونه يربط بين أهم مدينتين مقدستين ويستخدمه ملايين المسلمين من مختلف دول العالم، فالفوز بالمشروع شرف كبير وتسويق بالغ الأهمية، وكان التوجيه دائماً يقضي بالحرص على مصلحة المملكة وتطبيق الأنظمة بدون استثناء.
تسارعت الإعدادات للتنفيذ، وقع عقد بناء القطارات وتشغيلها عام 2012م، وقبله وقع عقد تنفيذ المسار وعقد بناء المحطات في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة ومدينة الملك عبد الله الاقتصادية، حرص الفريق المكلف بالإشراف على المشروع على التنفيذ السريع، كنا نتطلع دائماً لأول رحلة للقطار يكون صاحب المشروع على رأس المستقلين لها، لهذا الغرض كان التركيز على أن تكون الأولوية لبناء المحطات وتنفيذ المسار بين المدينة المنورة وجدة باعتباره المسافة الكافية للتشغيل التجريبي.
وصل أول قطار من سلسلة القطارات المكونة من خمسة وثلاثين قطاراً لميناء جدة الإسلامي في 22 ديسمبر 2014 كما هو مقرر في العقد، وزادت نسبة تنفيذ المحطات عن التسعين في المئة لكن شيئاً لم يكن في الحسبان قد حدث، في يوم الجمعة الثالث من ربيع الآخر فجع الوطن بوفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، جالت في خاطري هذه الأحداث عندما علمت بالوفاة وترقرقت في عيني دموع حزينة، حزينة على فقده وحزينة لأنه لم يفصل بين بداية التشغيل التجريبي للقطار والوفاة إلا أسابيع قليلة، إنها إرادة الله ولله في خلقه شؤون.
عزاؤنا في رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - صاحب الرؤية والإنجازات الضخمة والتجارب الواسعة والخبرات الطويلة في شتى مناحي الحياة، رافقت عدداً من رؤساء الدول والحكومات الذين زاروا المملكة وطلبوا مقابلة الملك سلمان عندما كان أميراً للرياض، كانوا يفاجؤون بإلمامه الواسع بالثقافة والتاريخ وقضايا العالم وكنت أشعر بالفخر عندما يذكرون لي ذلك صراحة، وفق الله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وأدام على وطننا الأمن والأمان والعيش الرغيد في ظل قيادته ومساندة سمو ولي العهد وسمو ولي ولي العهد.
د. جبارة الصريصري - وزير النقل السابق