الحمد لله رب العالمين، الذي شرف أهل العلم ورفع منزلتهم على سائر الخلق، والصلاة والسلام على رسول الله سيد الأولين والآخرين الذي لم يُورِّث ديناراً ولا درهماً، وإنما ورًّث العلم. فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وخزًّان العلم، وجودهم خير عظيم، وفقدهم مصاب جسيم.
إن موت العلماء ثلمة لا تسد، ومصيبة لا تحد، وفجيعة لا تنسى، وخسارة فادحة للإسلام والمسلمين، فبموتهم يضيع علم غزير، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء).
في الأيام القليلة الماضية فقدت الأوساط التربوية واللغوية علماً من أعلام الفكر والثقافة، ورائداً من رواد التربية في العالم العربي هو الأستاذ الدكتور رشدي أحمد طعيمة، حيث وافاه أجله المحتوم يوم الجمعة 27-2-1435هـ الموافق 29 -12 - 2014، بعد صراع طويل مع المرض.
لقد كانت حياة الأستاذ الدكتور رشدي أحمد طعيمة حافلة بالإنتاج التربوي والثقافي في مجالات كثيرة، فقد كان -يرحمه الله- مفكراً عربياً متميزاً، ورائداً ليس في مجال تعليم اللغة فحسب، ولا في مجال التربية وحدها، بل في الثقافة العربية الإسلامية بمفهومها الواسع، استوعب في كل ما تصدى لتأليفه، وفي كل نشاط مارسه جوهر ثقافته العربية الإسلامية. كما كان أستاذاً جامعياً رفيع المستوى، لمدة طويلة، عمل فيها مدرسا ًوأستاذاً للمناهج وطرق تدريس اللغة العربية بكلية التربية، جامعة المنصورة، وعميداً لكليات التربية بدمياط والمنصورة والإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان. كما عمل مستشاراً لعدد من الهيئات العربية والأجنبية في مجالات التربية بشكل عام، وفي مجالات تعليم اللغة العربية بشكل خاص، منها: الألكسو، الأسيسكو، اليونسكو، البنك الدولي، وغيرها. وحصل على جائزة الجامعة التقديرية والتشجيعية من جامعة المنصورة، وشارك في حضور العديد من المؤتمرات والندوات المحلية والعربية والعالمية.
وشرفتُ بمعرفة أستاذنا الدكتور رشدي طعيمة منذ كنت طالباً في مرحلة الدكتوراه، وذلك من خلال المشاركة في حضور المؤتمرات السنوية التي تنظمها الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، واستفدت كثيراً من علمه وتوجيهاته السديدة، فقد كان -يرحمه الله- يتصف بصفات عديدة منها: التواضع ولين الجانب، والأدب الجم، حيث كان ينصت باهتمام لكل ما يقوله باحث أو زميل أدنى منه، ولم يبخل على أحد من طلابه بفكر أو رأي أو مشورة.
كما عُرف عنه -يرحمه الله- عنايته الشديدة بالجوانب الإنسانية، وأذكر في هذا الصدد أن الأستاذ الدكتور سامي محمود عبدالله، أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية بكلية التربية -جامعة الأزهر، قد تحدّث إليّ عن موقف كريم لهذا الفقيد يتلخص في أنه كان يُشرف على إحدى طالبات الدراسات العليا، والدكتور رشدي طعيمة اُختيرَ من ضمن لجنة مناقشة الطالبة، وفي يوم من الأيام اتجه الدكتور رشدي إلى المشرف سائلاً عمّا تبقى للطالبة من إنجاز الرسالة، ثم أردف الدكتور سامي قائلاً: أنه طلب مني ضرورة إتمام رسالة الطالبة في أسرع ما يمكن، وعلى الرغم من الأستاذ الدكتور سامي محمود استغرب هذا الموقف !!؛ إلا أنه سرعان ما تبيّن له أن الباعث الذي حمل الدكتور رشدي على الإلحاح المستمر في إنهاء مشروع الطالبة، هو ما انتهى إلى مسامعه أن الطالبة مصابة بمرض السرطان -عافانا الله وإياكم من كل مكروه- ولذلك حرص الدكتور رشدي طعيمة -يرحمه الله- على إدخال البهجة والسرور في نفس الطالبة وتخفيف آلامها ومعاناتها. وفي ذلك الموقف الكريم ما لا يخفى من الجوانب الإنسانية العالية للفقيد -غفر الله له-.
لقد كان الأستاذ الدكتور رشدي طعيمة -يرحمه الله- يهتم كثيراً بالمواقف الإنسانية مع الجميع، وكان دائماً يحسن الظن بالآخرين، ولا يخوض في الناس أو ينال من أشخاصهم، ويُعزى هذا إلى تدينه وإيمانه العميق. كما امتاز الأستاذ الدكتور رشدي طعيمة -يرحمه الله- بالعلمية الصارمة، فقد كان باحثاً مدققاً يتسم بعمق التحليل، وشمول النظر، ويدعو إلى تجديد الفكر التربوي والممارسات التعليمية بصورة تمتزج فيها الأصالة بالمعاصرة، وله ما يربو على خمسين بحثاً وكتابا، من أهمها:
- تحليل المحتوى في العلوم الإنسانية.
- دليل عمل في إعداد المواد التعليمية.
- المرجع في تعليم اللغة العربية.
- تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
- الأسس اللغوية والثقافية لتعليم العربية.
- أدب الأطفال في المرحلة الابتدائية.
رحم الله الأستاذ الدكتور رشدي أحمد طعيمة، فهو بحق يعد نموذجاً لأستاذ الجامعة المعاصر في فكره، ونسأل الله أن يجازيه عن إحسانه إحساناً، وخالص العزاء لزوجته وابنته وأخوته وجميع طلابه ومحبيه في العالم العربي.
د. فهد بن عبدالكريم البكر - أستاذ المناهج وطرائق التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود