لا أريد أن تصل متأخراً إلى هذه الدرجة التي يصبح فيها العود إلى الماضي حلماً أو كابوساً يضغط على صدرك بكامل ثقله.. لا أريد أن تقف هناك في تلك النقطة تعضّ على أصابعك ندماً تصرخ بألم.
«ليتني لم أفوّت كل تلك الفرص».. «ليتني سمعتُ نداء قلبي.. ليتني سبقت بفكري الزمن».. ياه.. كم سيكون الوقت متأخراً عندما تصل إلى تلك النقطة التي يعرفها الكبار جيداً.. النقطة التي تفضح كل خيّبات الشباب.. كل أخطائه.. تتحدث بكل أسى.. عن غفلته تخاذله في اتخاذ قرار قوي شجاع..
هذا القرار هو: «أن يتعرّف على نفسه».
* * * *
ولكن.. تلك الملهيات، التفاهات اليومية، تسرق الإنسان من عالمه.. تصرفه عن نفسه تلهيه عن التفكّر في ذاته صفاته.. فلا يعد يعرف من هو ماذا يريد..؟!
فقط.. يسير مع السائرين، يمضي مع الماضين.. يرشد إذا رشدوا.. يضلّ إذا ضلّوا.. ويموت.. هو لم يقف على المرآة أبدا.. لا يعرف نفسه.. لم يتبين ملامحه الغارقة في الضباب!
* * * *
إلا أنه في يوم ما.. يوم تعيس كئيب... قد يستيقظ من سباته الطويل.. إثر صفعة مؤلمة، أو خيبة أمل كبيرة.. فيعضّ على أصابع الندم.. يتساءل:
«أين كنت في ذاك الزمن.. ماذا عساني فعلت؟
أسيرُ مع القوافل.. أتبع النجوم.. أستمع إلى نبح الكلاب..
ولا يطربني الحادي، لكنني كنت أسير مع القافلة.. وأهزُّ رأسي مُبتسماً.. وأقول لنفسي كاذباً.. «جميل.. جميل!!»
لم أكن أشعر بأني سعيد.. لكنني غضضت الطرف واصلت المسير.. متخاذلاً قد خنت نفسي من أجل الآخرين.. من أجل أن أكون معهم.
أسير على خطاهم.. أرضيهم.. ألقى حتف فرادتي مبتسما، وسط هتاف الجماهير.. ها أنا ذا الآن وحدي.. أعود في زمن الفوات، الذكريات تعض قلبي, وطيف الأمنيات.. يسدل ستارا أسود على الماضي السحيق.. يذكرني بعجزي.. تخاذل موقفي، ضياع صوتي في زحمة الأصوات.. ليت شعري لو يعود، يا ليت شعري لو يعود!
- حنان الحربش