الحقيقة التي يعرفها الناس أن الملك سلمان صديق للصحافيين منذ فترة طويلة عندما كان أميراً لمنطقة الرياض، وذلك بحكم اهتمامه بمتابعة الصحافة والفكر والثقافة في العالم العربي وليس السعودية فحسب، لكن الحقيقة أيضاً التي قد لا يعرفها الكثيرون هي أن الملك سلمان باحث علمي. ربما لأول مرة نستطيع أن نفك احتكار الصحافيين للملك سلمان ونقول: إنه صديق للأكاديميين.
قبل الدخول في موضوع المقال وهو الحوار الذي حصل بيني وبين سلمان الباحث قبل أكثر من عشر سنوات أود أن أعلق على جانب هام في شخصية الملك سلمان لفت انتباهي منذ فترة طويلة، سأتوقف قليلاً عند تعامل الملك سلمان مع الوقت. أذكر انني قبل أكثر من عشر سنوات وصلت إلى منطقة قصر الحكم مبكراً مع بداية الدوام لمقابلة سمو أمين مدينة الرياض في ذلك الوقت الدكتور عبدالعزيز العياف. وتطفلت وسألت أحد الجنود في منطقة قصر الحكم إذا ما كان الأمير سلمان بدأ الدوام في مكتبه بالإمارة أو أن الوقت مازال مبكراً. فقال لي الجندي بالحرف الواحد: «إن الأمير سلمان يداوم في مكتبه قبل أن تصحى أنت من نومك»، في الحقيقة أكبرت ذلك في دقة الأمير سلمان واهتمامه بالوقت بشكل يندر أن يُوجد لدى الكثير من المسؤولين. وفي موقف آخر طلبنا كأعضاء مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال لقاء الأمير سلمان لإطلاعه على تجربتنا في تأسيس جمعية الإعلام الوليدة في ذلك الوقت والاستماع إلى توجيهاته. وتم إبلاغنا بالموعد الساعة العاشرة صباحاً في مكتب سموه بالإمارة. وحضرنا مع الزملاء أعضاء مجلس الإدارة في الوقت المحدد ولم نستطع الدخول لمدة عشر دقائق فقط. ثم قابلنا سموه وكان مسؤولاً كبيراً بالفعل وقبل السلام على سموه اعتذر عن التأخير في مقابلتنا لمدة عشر دقائق بسبب مكالمة هاتفية. ومن الناحية الواقعية فإن عشر دقائق ليست بالكثيرة.. لكن دقة الأمير في الوقت واحترام الآخر لفت انتباهنا. وهذا أيضاً قل أن يحصل لدى الكثير من المسؤولين على مستوى العالم.
أعود لنقطة المقال الرئيسة وهي الجانب العلمي البحثي في شخصية الملك سلمان والحوار الذي جرى معه. لا أعتزم هنا ولا أستطيع أن أقدم تاريخاً لفكر الملك سلمان.. إذ إن هذا التاريخ من الاتساع ومن الشمول بحيث يتعين على من يتصدى له أن يعرض لتاريخ الدولة السعودية كلها. ما أود أن أقوم به هنا هو تقديم عرض موجز لجانب مهم في شخصية الملك سلمان لم يتم التطرق له كثيراً وهو الجانب البحثي العلمي.
في اللقاء المشار إليه مع أعضاء مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام تحدث الملك سلمان (أمير منطقة الرياض آنذاك) عن الأوضاع السياسية والأزمات في المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. واستأذنت الأمير في تعليق سريع فأذن لي وقلت له بشكل مباشر: إن جميع ملوك ورؤساء العرب المعاصرين لم يستطيعوا مخاطبة الإدارة الأمريكية بأسلوب الندية.. كما فعل الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - الذي كان يخاطب الرؤساء الأمريكيين في القضية الفلسطينية بأسلوب قوي فيه الكثير من الندية وذلك من خلال المراسلات المنشورة التي اطلعنا عليها.
وهنا اعترض الأمير سلمان على حديثي وأشار إلى أن الملك فهد تعامل مع القضية الفلسطينية والإدارة الأمريكية بكل حزم وعدالة ووضع خطة (الثماني نقاط للسلام) في بداية الثمانينيات الميلادية. وذكر الأمير سلمان أنه شخصياً عمل بحثاً علمياً عن هذه الخطة وموقف الملك فهد القوي في هذه المسألة. وفي نفس اللحظة رفع الأمير سلمان سماعة الهاتف ووجه أمين عام دارة الملك عبدالعزيز الأخ الدكتور فهد السماري لإطلاعي على بحث الأمير سلمان العلمي كما طلب مني إبداء رأيي فيه.
وبالفعل هاتفني أمين عام الدارة وأبلغني أن سمو الأمير وجهه لإطلاعي على البحث. وحضرت فعلاً إلى الدارة وقرأت البحث الذي كان موثقاً في نحو خمسين صفحة. وسوف لا أتطرق هنا لمضامين بحث الملك لأن البحث غير قابل للنشر أو التداول حسب ما وجهني به الأمير سلمان لظروف معينة في حينها.
وقد كان الأمير سلمان شديد العناية بإبراز هذا الجانب من الجوانب السياسية المهمة للملك فهد - رحمه الله -.. لكون ذلك ذا دلالة واضحة على محورية القضية الفلسطينية في السياسة السعودية منذ تأسيسها. ويمكن القول إن البحث العلمي للملك لم يكن نابعاً من فكرة عابرة أو تأمل سريع.. بل كان ثمرة تفكير طويل ومعايشة للواقع ومصادر تاريخية كثيرة. وكان بحثاً على مستوى رفيع من حيث مشكلة البحث وأهميتها والمنهج العلمي والتوثيق الدقيق لمصادر البحث. وتميز البحث بقدرة واضحة على تحليل الوقائع السياسية الخاصة بالقضية وتاريخها. والأمانة العلمية تستوجبنا القول إن منهجية الملك سلمان كانت علمية وتبدو مدهشة في روحها العصرية العلمية.
والحق يقال: إن المؤلف اعتمد في عرضه وتحليله عقلانية الباحث.. وكان مؤرخاً منصفاً في تقريره عن الملك فهد والقضية الفلسطينية. وهكذا شعرت أن المؤلف يدفع بنا بأسلوب علمي إلى الاستنتاج أن القضية الفلسطينية جهد مستمر للدولة السعودية منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - إلى الوقت الحاضر.. وأن الحزم في التعامل معها مستمر في جميع فترات ملوك هذه الدولة.
فالملك سلمان شاهد على عصره.. فهو باحث علمي ومواطن قبل أن يكون ملكاً يحمل هموم الوطن والأمتين العربية والإسلامية. وتفكيره كباحث - كما تجلى من البحث - يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات بالإضافة إلى الخبرة العلمية الطويلة.. مما يعكس تلك العقلية المنظمة التي تعتبر ميزة للملك سلمان. وربما للمرة الأولى نرى هنا السياسي والباحث يعيشان في نفس واحدة.
ولا شك أن النتيجة الأولى المستخلصة هي أن الملك سلمان بمنهجيته واهتمامه بالبحث العلمي قد أرسى أسساً تاريخية موثقة لهذه البلاد وأدوارها في العالمين العربي والإسلامي. والنتيجة الثانية هي الاستنتاج المنطقي بأن الملك سلمان كان ولا زال نصيراً للعلم داعياً للأخذ بأسبابه. وهذا يعني أن التفكير العلمي المنهجي للملك سلمان انعكس في توجيهه لأمور الدولة بطريقة علمية منظمة.
ويعني أيضاً أن عصر التلقائية والعشوائية قد ولّى وبأن النظرة العلمية إلى شؤون الدولة في إطار ثوابت الدين الإسلامي الحنيف هي التي تضمن لمجتمعنا أن يواصل المسيرة في طريق التقدم.
والنتيجة المستخلصة الأخيرة هي أن هذه العقلية العلمية المنظمة انعكست في فلسفة ورؤية الملك سلمان في إعادة هيكلة الدولة من خلال الأوامر الملكية الأخيرة.. التي من أبرز سماتها إلغاء العديد من اللجان والمجالس العليا في الدولة وتركيز العمل في أيد قليلة تجمع أهم الاختصاصات في المجلسين مما يساعدها على التنسيق والتنفيذ بشكل أكثر سرعة وكفاءة.. وكما يقول الفيلسوف والسياسي الإنجليزي (فرنسيس بيكون) في القرن السادس عشر: «هناك ثلاث نقاط من العمل في الحكومة: إنها الإعداد، والمناقشة أو الفحص، والإنجاز أو التنفيذ. فإذا توخيت السرعة، فلتجعل النقطة الوسطى شغل الأكثرية ومهمتهم، ولتجعل الأولى والأخيرة عمل القلة..» وهذا ما فعله الملك سلمان مهندس الدولة السعودية الجديدة.
د. عبدالرحمن بن عبدالله العتيبي - عضو مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام