جاءت الأوامر الملكية السامية التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بإعادة تشكيل مجلس الوزراء بتعيين عدد من الوزراء الشباب، كبلسم هدفه الانطلاق بالمملكة نحو أفق أرحب وبرؤى واستراتيجية شُغلها الشاغل هو تعزيز كل ما من شأنه تنمية البلاد بطريقة مدروسة ومقننة ومشاهدة ومحسوسة من قبل كافة شرائح المجتمع. ولعل مما يزيد المرء تفاؤلاً أن من يُدير دفة هذه الرؤى والاستراتيجيات شخصية متمرسة في كل شؤون الحكم المحلي، بخبرة ممتدة لأكثر من خمسين عاماً على رأس إمارة الرياض، وبعلاقات خارجية مع مختلف الساسة في الشرق والغرب، وكان محصلة كل هذا شخصية ندر مثيلها في تجربة الحكم المحلي والعلاقات الدولية، واللتين جمعهما وأتقنهما خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. وتميزت الأوامر السامية التي صدرت بمحورين رئيسيين هما، تعيين وزراء من الشباب وإنشاء مجلسين جديدين أحدهما للشؤون الأمنية والسياسية والآخر للشؤون الاقتصادية.
بالنسبة للمحور الأول، لعل من يتفحص تعيينات الوزراء الجدد يجد أنها تتميز بثلاثة ملامح رئيسة، أولها أنهم من فئة الشباب، والثانية كون غالبيتهم من ذوي الخبرات في القطاع الخاص، والثالثة تعيينهم تم على رأس وزارات ذات علاقة مباشرة بالمواطن أو ما يطلق عليه اصطلاحا بالوزارات الخدمية كالتعليم، الصحة، الخدمة المدنية، البلديات والثقافة والإعلام. هنا، يؤكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أهمية إشراك الشباب في جهود الدولة التنموية، بما يملكونه من رؤى تساير روح العصر ومقدرة على اتخاذ القرار بحرفية ومهنية خصوصاً أن لديهم خبرات ناجحة في القطاع الخاص، وأكدت تجارب العديد من الدول بأن تعين ما يطلق عليهم بالتكنوقراط، أو الخبراء يُعدُّ عاملاً مهما ومحورياً في إنجاح المشروعات الحكومية.
والمحور الثاني من الأوامر الملكية جاء ليضع نهاية للكثير من الإشكاليات الإدارية والتضخم البيروقراطي للعمل الحكومي، وعليه فقد ألغت الأوامر قائمة من المجالس الحكومية، وإنشاء مجلسين فقط هما، مجلس الشؤون الأمنية والسياسة ومجلس الشؤون الاقتصادية. فلكل دولة لتقوم بمهامها الداخلية والخارجية تحتاج لثلاثة مقومات أساسية هي الأمن، علاقاتها الخارجية، والاقتصاد، وتشكل هذه المقومات الثلاثة مثلثا لأي عمل حكومي ناجح يهدف إلي صالح البلاد وينأى بنفسه عن التداخلات بين مختلف قطاعات الدولة التي قد تتنازع فيما بينها الصلاحيات والتي تؤدى في المحصلة النهائية إلى إهدار الوقت والمال وبدون نتيجة ملموسة. فتخصيص مجلسين فقط سيعجل في الإسراع في تنفيذ السياسات التي تتخذها الدولة وتجعل التنسيق بينهما أمرا منطقياً وممكناً، خصوصاً في ما يتعلق بالرؤى والأهداف المشركة بينهما.
عليه، ومن خلال الأوامر السامية التي صدرت بإنشاء مجلسين وتعيين وزراء من فئة الشباب في وزراء خدمية، تتضح الصورة الكاملة لرؤية واستراتيجية الملك سلمان بن عبد العزيز في التنمية، فالمجالس تضع الخطط والاستراتيجيات والرؤى والتي تحتاج لجهاز تنفيذي ذي خبرة باقتصاد السوق لتنفيذ هذه الاستراتيجيات. والأوامر توضح بشكل أعمق أن رؤية الملك ليست فقط هو التنمية بمفهومها التقليدي، بل تهدف إلي إحلال التنمية المستدامة ( Sustainable Development)، بمعني تنمية تستخدم كافة الموارد التي من بها الله - عز وجل - بها على بلادنا بالطريقة المثلي، وقادرة على الاستمرار مع مرونة لاستحداث وظائف جديدة. فالمملكة كما هو الحال مع كل دول العالم تواجه تحديات اقتصادية عديدة منهما تفعيل دور القطاع الخاص في الاقتصاد الكلي للدولة والتي ظلت وحتى الآن هي المشغل الرئيس للقوة العاملة والتي تضخ آلاف الخرجين لسوق العمل كل عام. كذلك تواجه الدولة مشكلة الانخفاض الحاد في أسعار البترول والذي أطاح بسعر البرميل إلي ما دون الخمسين دولاراً للبرميل، ومع أن المملكة قد واجهت نفس المشكلة وإن بصورة أكثر تعقيداً في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم حيث تراوحت أسعار البرميل بين العشرين والعشرة دولارات، وتمكنت المملكة - بحمد الله - من تجاوز تلك الحقبة بأداء وسياسة اقتصادية مميزة. ومع قول ذلك، فتجربتي انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينات والحالية تستوجبان وضع خطط وآليات لتنويع مصادر الدخل للدولة، مع أهمية ربط الخطط الخمسية للدولة بالتنمية المستدامة، ولا شك أن مثل هذه الموضوعات ستكون على رأس أولويات المجلس الاقتصادي.
هناك ثلاث ركائز أساسية للتنمية المستدامة، التعليم، التوظيف، والإعلام، فهي تحتاج لمشروع تعليمي واضح المعالم يبدأ من السنوات الأولي في التعليم العام مروراً بالتعليم التخصصي وتكون مهمته القدرة على استيعاب متطلبات سوق العمل. ومن الأمثلة التي تطرقت لها الكثير من وسائل الإعلام لسوء التخطيط بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل المشاكل التي مازال يواجها خريجي الدبلومات الصحية والتقنية الحيوية وغيرهم في الحصول على فرص عمل، علماً بأن خريجي التقنية الحيوية خصوصاً من العنصر النسائي الذين يعدون بالمئات حاصلات على شهادات عليا في هذا التخصص والتحق بعضهن ببعثات دراسية كلفت الدولة ملايين الريالات، وبعد عودتهن لأرض الوطن لم يحصلن حتى الآن على فرص عمل، بل إن شهاداتهن قد تم رفض تصنيفها من قبل الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، كما هو حال خريجي الدبلومات الصحية. هذه الأمثلة توضح أن هناك عواراً بيناً بين مخرجات التعليم وسوق العمل. وتحتاج التنمية المستدامة كذلك لوزارة خدمة مدنية تنفض عنها آليات عملها البالية التي تجاوزها الزمن بأنظمة مستمدة من دول شقيقة غيرت عدة مرات آليات خدمتها المدنية، وبقيت وزارة الخدمة المدنية متشبثة بها، وكانت نتيجة هذا التشبث حرمان قطاعات الدولة من كفاءات إدارية هُمشت بسبب نظام الترقيات البعيد كل البعد عن المرونة، ونتج عنه أن غدت الوزارة كأرشيف لحفظ معلومات موظفي الدولة، ليس إلا. فلا رؤية ولا تطوير ولا آليات للمسابقة والمنافسة والتنقل على الوظائف الإدارية العليا بين مختلف قطاعات الدولة، ونتج عن هذا موظفون محبطون يعينون في قطاع حكومي ويبقون فيه إلى أن يحالوا إلي التقاعد أو يدركهم الأجل المحتوم. وكما هو الحال بضرورة تطوير التعليم وأنظمة الخدمة المدنية من أجل تنمية مستدامة، كذلك فالإعلام والثقافة تلعبان دوراَ محورياً في نشر ثقافة العمل ونبذ التطرف بين كافة شرائح المجتمع، خصوصاً بين الشباب الذين هم عماد كل أمة، إعلام قادر وباحترافية مهنية بعيدة عن الرسائل المباشرة، في تعزيز الانتماء الوطني، والمناهض للفكر الإرهابي والإقصائي والنزاعات ذات المنشأ القبلي، المذهبي أو الطائفي.
ما يثلج الصدر أن أوامر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، كونت صورة واضحة المعالم بمجلسين لوضع السياسات والاستراتيجيات وبطاقم تنفيذي جله من الشباب التكنوقراط، القادرين - بعد توفيق الله - على التنفيذ على أرض الواقع بنتائج سوف تكون ملموسة للقاصي والداني.