لا جرم أن اللغة العربية، لغة القرآن لغة غنية بمفرداتها، محكمة في تعابيرها، واسعة بمكنوزاتها ومدخراتها، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (109) سورة الكهف، ولكننا نحن البشر لا نحيط من لغتنا إلا بالنزر القليل، وعندما نريد أن نعبر عن حادث جلل أو شخصية عالمية، أو إنجازات ضخمة فإننا لا نعطي ذلك قدره وذلك نقص منا وفينا، هذا ما أشعر به وأنا أعد هذا المقال البسيط تعزية في وفاة فقيد الوطن والمواطنين والأمتين العربية والإسلامية والأسرة الدولية جمعاء، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وألهم الشعب السعودي فيه الصبر والسلوان.
والصعوبة هنا أن الإنسان أمام شخصية عظيمة في تكوينه، وفي صفاته وأخلاقه وسلوكه وتصرفاته، وأما منجزاته خلال مدة حكمه القصيرة، سواء كان ذلك لوطنه المملكة العربية السعودية، أو لأمته العربية، أو لأمته الإسلامية، أو للأسرة الدولية ككل، وما حققته المملكة أثناء حكمه على كافة المستويات المحلية والعربية والدولية فهي منجزات عظيمة ومتنوعة، وأكبر من أن تختزل في مقال بجريدة يومية، هنا تكمن الصعوبة في اختيار الكلمات المعبرة.
لقد تشرفت بالعمل مباشرة مع المغفور له الملك عبدالله أربعة وعشرين عاماً، لمست بيدي منه وفيه قوة الإيمان بالله، وقوة التوكل عليه، والإيمان بقضائه وقدره، والحب العميق والصادق للوطن وللمواطنين، وحرصه الدائم على خدمتهم وما يقضي حوائجهم، ورغبته في معرفة ما هم عليه، وحل ما يعتريهم من مشكلات وصعوبات، مع تقديره للوقت وللعاملين معه، ومنجزاتهم وعطاءاتهم، وحبه وتقديره للصدق والأمانة، والإخلاص وكرهه ومقته لمضادات ذلك.
وباختصار لصفاته رحمه الله فهو المسلم الصادق الأمين، أما منجزاته فهي أكبر من أن تختصر ولكن لنكتف بالعناوين فبعض الشيء خير من لا شيء.
لا شك أن التنمية بالمملكة بدأت منذ عهد الملك المؤسس والموحد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وكل من خلفه في الحكم حققت التنمية في عهده ما أمكن تحقيقه، ففي عهد الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته خطت المملكة خطوات ملموسة في سبيل التنمية، وتدعيم ركائز الحكم، وتوسيع المشاركة فيه، وفي عهد الملك عبدالله غفر الله له، تحققت وما زالت تتحقق مشاريع تنموية ضخمة، فالجامعات فتحت في كل محافظة، مكملة بذلك النظام التعليمي في كل محافظة، مانعة انتقال الناس إلى المدن الكبيرة لإكمال التعليم حتى بلغت الجامعات الحكومية والأهلية أكثر من ثلاثين جامعة، ومع هذا التوسع الكبير أنشئت معاهد وكليات فنية وتقنية في كل المحافظات وجرى التوسع في برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث حتى وصل المستفيدون منه لأكثر من مائتي ألف طالب، وانتشر طلابنا وطالباتنا في كافة أنحاء المعمورة طلباً لما عندهم من العلم والمعرفة، وما زال ذلك البرنامج يؤتي ثماره الطيبة.
ولتوفير الأمن والأمان للمواطن والمقيم ولتعرض المملكة لحملات الإرهاب من الأعداء فقد جعل رحمه الله نصب عينه مكافحة الإرهاب واستطاعت وزارة الداخلية وبتوجيهات وبمتابعة يومية من وزيرها الشاب الأمير محمد بن نايف القضاء على الإرهاب، واستباق مخططاته واكتشافها قبل التنفيذ، وكان للمملكة السبق في ذلك، ولم يكتف بمكافحة الإرهاب في داخل المملكة، بل تعاونت المملكة مع كافة دول العالم المعنية بذلك، بل سارع الملك غفر الله له إلى طلب إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب ودعمه بمبالغ كبيرة.
وللتجربة الناجحة للحوار الوطني الذي رعاه الملك عبدالله، وجعل له مركزاً مستقلاً يحمل اسم الملك عبدالعزيز في أغسطس 2003م، وما حققه من نتائج ممتازة جمعت أطراف لم يتوقعوا أن يجتمعوا، وناقشت أموراً وجوانب كل يعتقد أنها لا تخضع للحوار، فقد حظيت المملكة بتوجيهات منه غفر الله له إلى فتح حوار بين الأديان وإنشاء مركز دولي لذلك في النمسا، وقد أثبتت المملكة بخطواتها لمكافحة الإرهاب، وحوار الأديان أن الدين الإسلامي دين سماحة وعدل ومحافظة على المخلوقات والكائنات والطبيعة وغيرها، كما أثبتت أنها ضد الإرهاب ومع الانتفاح بين الدول والشعوب، التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية بلغت شأناً في عهد الملك عبدالله لم تصله من قبله، ويكفي أن ميزانية عام 2014م، بلغت 855 مليار ريال، ومن ضمن المشاريع التي يشار إليه بالبنان موضوع توسعة الحرمين الشريفين، حيث يعتبر الملك عبدالله رحمه الله شأنه في ذلك شأن والده وإخوانه الذين سبقوه في الحكم، أن وجود الحرمين الشريفين في بلادنا نعمة كبيرة من رب العزة والجلال، ولذلك فهم يتشرفون بخدمة هذين البيتين، وزوارهما في كل حين، ومن أين قدموا ولذلك جاءت تسمية الملك فهد والملك عبدالله والملك سلمان بخادم الحرمين الشريفين تشرفاً بهذه الخدمة وشكراً للخالق عليها، ومن هذا المنطلق فإن كل ما يتطلبه الاهتمام والرعاية بالحرم المكي والحرم النبوي أمر له الأولوية على كل ما سواه، لقد بذل كل ملك من ملوكنا السابقين كل ما في وسعه لتوسعة وتهيئة الحرمين الشريفين, وخدمة زوارهما، وكان من أكبر التوسعات توسعة الملك فهد رحمه الله التي لا تزال مشهودة في الحرم المكي، والحرم النبوي، ثم جاءت توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله شاملة في الحرم بجميع أجزائه، وفي المشاعر المقدسة من مرمى الجمرات إلى منى ومزدلفة إلى قطار الحرمين الشريفين لتضاعف قدرة هذه الأماكن على استيعاب أضعاف الحجاج والمعتمرين قبل التوسعة، وليس الهدف زيادة الأعداد فقط بل توفير الراحة والأمن لضيوف الرحمن في كل الأوقات وفي كل مكان.
ولا شك أن هذه التوسعة الضخمة للحرمين الشريفين وللأماكن المقدسة، وتوفير قطار الحرمين الشريفين الذي يربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، وبين كافة المشاعر المقدسة سيجعل نسك الحج والعمرة ميسرة وفي غاية السهولة، فجزى الله مليكنا عبدالله خير الجزاء وأثابه على ذلك جنان الخلد والنعيم المقيم.
بالإضافة إلى قطار الحرمين الشريفين فهناك القطار الذي سيربط شمال المملكة بوسطها وغربها، وفي مرحلة لاحقة بجنوبها مما سيكون له الأثر الكبير في تنقل الناس والمنتجات، ولا يغيب عن الذهب اعتماده لتنظيم النقل العام في المدن الرئيسة بالمملكة ومنها العاصمة حيث خصص لها وحدها ستين مليار ريال شاملاً القطارات والحافلات وغيرها، هذا المشروع للمدن وما بينها سيكون له أثر كبير في تنقل وحياة الناس، الناحية الاقتصادية استأثرت بكثير من اهتمام الملك رحمه الله فأنشأ مدينة الملك عبدالله الاقتصادية ومدينة الأمير عبدالله بن مساعد بحائل، ومدينة المعرفة، ومدينة جازان الاقتصادية، ومركز عبدالله المالي، والمدينة الصناعية في رابغ وغير ذلك، كما أن رصده بمبلغ مئتين وخمسين مليار ريال للإسكان وتوفير المساحات الشاسعة من الأراضي للإسكان دليل على اهتمامه بضرورة توفر السكن للمواطن حيث يقيم، زيادة الضمان الاجتماعي للأسر الفقيرة إلى سبعة عشر مليارل سنوياً والصرف لهم بشكل شهري غيّر حياتهم ووفر لهم الكرامة والعيش والراحة، إدراكه رحمه الله بوجود بعض الفساد في الدوائر الحكومية، وضرورة القضاء على ذلك دعاه إلى إنشاء هيئة لمكافحة الفساد (نزاهة) بالإضافة إلى هيئتين لحقوق الإنسان وإعطاء هذه الهيئات كافة الصلاحيات، ولا شك أن ثمار هذه المؤسسات أعطت ثمارها يانعة على وضع الإدارة ولا بد أن يلمس المواطن التحسن في الأداء وفي الخدمات.
المرأة دائماً نصف المجتمع، والأم مدرسة إذا أعددتها، أعددت شعباً طيب الأعراق، ومن هنا نظر الملك عبدالله رحمه الله إلى المرأة بعين الإنصاف، والرغبة الصادقة في اشراكها في تنمية مجتمعها وتطويره، ولذلك هيئت لتلك المهمة الضخمة، والغاية النبيلة، فأنشأ لها المدارس والمعاهد والجامعات وبلغ ذلك الاهتمام قمته بإنشاء جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن للبنات في الرياض التي تعتبر أكبر جامعة للمرأة في العالم، ولم يكتف بهذا بل خصص كليات في جامعات المحافظات خاصة بالمرأة، وفي خطوة غير مسبوقة اختار جلالته ثلاثين امرأة من المواطنات المتعلمات الحاصلات على أرقى الشهادات العلمية، وأحسن الخبرات العملية، كل ذلك في إطار وسلوك إسلامي قويم وعينهن عضوات في مجلس الشورى، لكي يشاركن بعلمهن وخبرتهن، وبعد نظرهن في حل مشكلات مجتمعهن ودراسة أنظمته وقوانينه وأدائه ومنجزاته.
لإيمان الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله - بأهمية مرفق القضاء، وتمثيله لحكم الله في الناس فقد أمر بتطوير هذا الجهاز بحيث قسمت المحاكم إلى جزئية، واستئناف، وعليا، وإلى إجرائية وتنفيذية وقد خصص رحمه الله سبعة مليارات ريال لتطوير ذلك المرفق المهم، كما حرص على سرعة وتنفيذ الأحكام القضائية بعد حصولها على الحكم القطعي حفاظاً على حقوق الناس، ولقد لمس الجميع التطور في القضاء في المردود عليهم من سرعة البت في القضايا، وسرعة تنفيذ الأحكام، وما زالت التحسينات والتطوير مستمرين، ولم تقتصر رغبة الملك عبدالله على تطوير القضاء فحسب، بل إنها رغبة شاملة في تطوير كل ما من شأنه توفير الأمن والراحة والرخاء للمواطن والمقيم، كذلك رصد للتعليم ثمانين مليارًا لتطويره عدا مئات المليارات لبناء وتجهيز المدارس عوضاً عن المستأجرة وتطوير المناهج وتدريب المعلمين وتطوير أساليب التعليم.
وزارة الصحة لم تكن غائبة عن ذهن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - طيب الله ثراه - فباعتراف معالي الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز الربيعة وزير الصحة السابق، أن كل ما يطلبه من جلالته كان يعتمد على الفور، وهذا ما منحهم في الوزارة القدرة على بناء وإعداد خمس مدن طبية وعشرات المستشفيات ومئات المستوصفات في مختلف أنحاء المملكة، بعضها فتح أبوابه للخدمة، والبعض الآخر لا يزال في طور التجهيز.
منجزات الملك عبدالله طيب الله ثراه لم تقتصر على الوطن وهو دائمًا الأولى والأحق، ولكن في نفس الوقت شملت كثيراً من الدول العربية والإسلامية والصديقة انطلاقاً من رغبة المملكة في تطوير علاقاتها مع الجميع، وفي حكمتها وسياستها في مناصرة ودعم الأشقاء والأصدقاء، ولعل دعمه للجيش اللبناني بمبالغ كبيرة، وتطويره وتسليحه وجعله قادرًا على حماية بلاده، والوقوف بحزم وقوة وصلابة مع الإخوان السوريين الأحرار ودعمه لهم، ومساندته للشعوب التي تتعرض للفيضانات أو السيول أو السنامي وغيرها خير دليل على ما نقول.
الحديث عن منجزات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله وجعل الجنة مثواه شيق ومتصل ولا ينقطع، ولكننا نكتفي بذلك منتظرين أن يسجل لنا التاريخ صفحات ناصعة من الإنجازات في كل مجال، ونبتهل إلى العلي القدير أن يتقبل الفقيد قبولاً حسناً، وأن يسكنه الجنة، ويجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يلهم أهله وذويه وشعبه وأمته الصبر والسلوان، وأن يمد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بوافر الصحة والعافية والسداد والتوفيق، وأن يوفق ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز ويمدهما بالصحة والعافية والتوفيق ويحقق على يدي حكومتنا الرشيدة ما نصبو إليه من عزة وكرامة وسؤدد والحمد لله رب العالمين.