في ليلة حزينة، ليلة الفقد والألم، ليلة الغياب الكبير، ليلة فقيد الأمة، ليلة فقيد الوطن، ليلة امتلأت فيها المآقي بالدموع، وعصر فيها الألم القلوب، وذلك عندما أعلن الديوان الملكي رحيل ملك القلوب الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله؛ الملك الذي ملك قلوب شعبه، فأحبهم حبا ملأ جوانح قلبه، وسويداء فؤاده، فآثر مطالبهم، وقدم احتياجاتهم، وعدل بينهم بالقسط والعدل، فالقوي منهم ضعيف حتى يأخذ الحق منه، والضعيف منهم قوي حتى يأخذ الحق له، وسار بهم سيرة آبائه وأجداده، العقيدة الإسلامية منهجه، وشرائع الإسلام دستور حكمه؛ والخوف من الله تعالى منار سبيله.
فما أعظم قلبك سيدي أبا متعب عندما اتسع لكل فرد من أبناء شعبك الوفي، فكلهم لديك بمثابة الابن أوالأخ، بصورة أدهشت القاصي والداني، قد رسمت مع أبناء شعبك لوحة جميلة من الحب والوفاء والولاء، ونهجت منهجا فريدا في قضاء حوائجهم، والاستماع لمطالبهم، ورفض كل ما يعكر صفو حياتهم، أو يحزن قلوبهم، وكم هي المواقف التي أثبتت قربك منهم، وتعلقك بهم!! بل جعلت رحمك الله حب الشعب ورضاه ميزانا للقيادة الحكيمة، وجعلت رضى الشعب دليلا على نجاح المسؤول أيا كانت مسؤوليته، وذلك عندما كنت توصي المسؤولين عندما تكلفهم بالأعمال التي تهم المواطن الكريم.
مليكنا الغالي عبدالله بن عبدالعزيز رحلت عن هذه الدنيا بجسدك ولكنك باق في قلوب شعبك الوفي، باق بصدقك معهم، باق بحبك لهم، باق بتنفيذ متطلباتهم الخاصة والعامة، باق بسؤالك عنهم، باق بتوجيه المسؤولين بكافة قطاعات الدولة بالاهتمام بالمواطن، والحرص الشديد على راحته، وتحقيق ما يصبو إليه من تطلعات وآمال.
مليكنا الراحل قد كنت لشعبك الوفي أبا حنونا، وأخا شفيقا، وملكا عادلا، ومسؤولا كريما، التواضع طبيعتك، والعفوية سجيتك، والصدق منهجك، والطيبة مدار تعاملك، والسماحة طابع أخلاقك، ولكل هذه الأخلاق والسمات مواقف كثيرة لا مجال لتعدادها، قد حُفرت في قلوب أبناء الشعب الحبيب، يتذاكرونها في مجالسهم، ويروونها في منتدياتهم بفخر واعتزاز.
ولذا لا تسل عن الحزن الذي خيم على أبناء شعبك، وعلى وطنك الكبير عندما تأكد نبأ رحيلك المر على جميع محبيك، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، ليلة حزينة شديدة الوقع على أفراد شعبك، فواصلوا السهر لعل نبأ ينفي ذلك الخبر الحزين!! ولكن أُعلن ما أبكى عيونهم، وأحزن قلوبهم، وأقض مضاجعهم، فضجوا دعاء لمولاهم الكريم بأن يرحمك برحمته الواسعة جراء ما بذلت لأبناء شعبك، وما قدمت لوطنك، وأمتيك العربية والإسلامية، بل وللعالم أجمع.
حزن كبير ضرب أطنابه على قلب كل مواطن عاش على ثرى أرض الحرمين الشريفين، بل وعلى كل الوافدين إليها من أبناء الأمتين العربية والإسلامية حزن أظلمت بسببه سماء مملكتنا الحبيبة، واهتز كيانها، وتكدر هواؤها، فما أطول تلك الليلة على محبي ملك الإنسانية الكبير!!
وتساءل المواطنون بحسرة وحزن شديدين:
هل رحل أبو متعب ؟!!
هل ودعنا ملك الإنسانية الحبيب!!
هل فقدنا رائد التنمية والتطور!!
هل ودعنا رمز المحبة والسلام !!؟
هل فقدنا القائد الشجاع!!؟
هل ودعنا باني أعظم توسعة للحرمين الشريفين!!؟
هل فقدنا الملك الذي عزز فرص التعليم العالي والابتعاث!!؟
هل ودعنا الملك الذي كرس مبدأ الحوار في كل القضايا التي تهم المجتمع !! ؟
هل رحل قاهر الإرهاب والتشدد، وملك الوسطية والاعتدال!! بمنهاج الكتاب والسنة!؟ قالوا كل ذلك وقلوبهم الحرى تصطلي بألم الفراق!!
فعلا هل غادرنا عبدالله بن عبدالعزيز؛ ملك العفوية والتسامح، ملك المحبة والعطاء، ملك الصدق في القول والعمل، عبدالله الخير والسؤدد، والنجدة والنخوة، والأبوة الصادقة، والأخوة الحانية، ولن تبرح ذاكرة شعبك الوفي مهما تطاولت السنين، وسيكتب تاريخ هذا الوطن العزيز صفحات أعمالك بمداد من ذهب، وستعلم الأجيال اللاحقة بإذن الله من أبناء هذا الوطن الكبير عما قدمته للوطن وأبناء شعبك الوفي.
أيها الراحل العظيم وقد كنت عنصرا رئيسا في تنمية هذا الوطن منذ نعمومة أظفارك في عهد والدك المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله، ثم في عهود إخوانك الملوك العظام؛ فقد كنت لهم سندا وعضد وعونا في مواقع كثيرة في العمل الميداني مما يهم أبناء شعبك، فبذلت جهودا كبيرة، كانت مثار إعجابهم وثقتهم.
وعندما تسنمت دفة الحكم في مملكتنا الحبيبة كنت قطب الرحى وسيد الموقف في تسيير أعمال هذه الدولة المباركة؛ كي تحقق للوطن والمواطن ما يتطلع إليه من نماء وتطور في كافة الأصعدة؛ فبذلت قصارى جهدك، وعظيم بذلك، ووجهت المسؤولين بتقديم كل ما في وسعهم خدمة للوطن والمواطن، وأمرت بتنفيذ مشروعات ضخمة في التعليم والصحة والنقل والمواصلات والاقتصاد وغيرها الكثير مما لا يحيطه القلم في هذا المقام.
وأما الحرمان الشريفان فلهما شأن كبير في قلب عبدالله بن عبدالعزيز رحمه ربي، وغفر له، ولن تنسى الأمة جمعاء بأنك أول من قام بتوسعة المطاف الشريف توسعة لم تسبق إليها على مدار التاريخ، وهل ينسى أبناء شعبك إصرارك على الشركة المنفذة بأن تنفذه بنصف المدة المقررة!!؟
مليكنا الراحل العظيم ولن ينسى الوطن الحبيب وقفاتك الصارمة في وجه الإرهاب والإرهابيين؛ الذين يريدون زعزعة أمن هذه البلاد المباركة كيدا وظلما وعدوانا، ويتذكرون كلماتك الحازمة بأن القضاء على الإرهاب هدف في حد ذاته مهما طال الزمن؛ لأن الغلبة والنصر دوما للحق، ولو حاول الباطل بشره وحقده ونفثه أن يجابه الحق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
يوم رحيل قائدنا العظيم الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله ليس شديدا وأليما على أبناء هذا الوطن فحسب، بل لقد ضج العالم كله من هول الفاجعة، فكل جاء يقدم تعازيه، ويرسل مواساته، ويعرب عن ألمه لهذا المصاب الجلل، على مستوى الرؤساء والملوك، وأقطاب الحكم والسياسة في العالم؛ لأنهم يعرفون سلفا من هو الفقيد: بثاقب رأيه، وحصافة فكره، ونافذ بصيرته، وحكمة أقواله وأفعاله، ويدل دلالة قاطعة على عظمة هذا الوطن الكبير قيادة وحكومة وشعبا.
وبإذن الله سيستمر فيض ربنا الكريم على مملكتنا الغالية، وسيتحقق ما يصبو إليه قادتها من نصر وعز وتمكين لهذا الوطن الحبيب وقادته وشعبه الوفي.
وها هو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يتسلم الراية من أخيه وهو يحمل في قلبه حب هذا الوطن، الملك الذي تعددت مواهبه، وعظمت خبرته، وطغت محبته؛ الملك الذي اعتلى صهوة المجد منذ نعومة أظفاره، وهبه مولاه صفات عز أن تجتمع في رجل، وندر أن تكتمل في شخصية أحد، هو الدهاء، والسياسة، والعبقرية، هو الملك الذي صقلت مواهبه في مدرسة الملك المؤسس رحمه الله، وتكرست واشتد ساعدها في عهود إخوانه الملوك اللاحقين من بعده عليهم رحمات الله المتتابعة، فما أن يكلف بأمر يهم الوطن، أو مهمة تخص المواطن حتى يثب إليها باذلا كل ما يستطيع من نفس ونفيس حتى يحقق بغيته، وينال مراده، ومن هنا فرض احترامه على الجميع.
وتم اختيار الأمير مقرن بن عبدالعزيز وليا للعهد، والأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وليا لولي العهد بصورة سلسة، تدعو للفخر والاعتزاز بهؤلاء القادة الكرام،كان ذلك بانسيابية خاصة لا يتقنها ولا يعرف خصائصها إلا أبناء هذا الوطن الكريم؛ ممثلة بقيادتهم الرشيدة أبناء الملك المؤسس رحمه الله، فسلاسة تتابع الحكم في هذه البلاد المباركة منهج سعودي خاص لا يحسنه الكثير من الزعماء في العالم، ولا الكثير من الدول؛ التي تعنى بالدساتير الإنسانية، ومناهج الحكم المختلفة فما أن يطغى حزب على حزب، أو حاكم على آخر حتى تهب بينهم حروب طاحنة لا هوادة فيها؛ تأكل أخضرهم ويابسهم، ويصبح أمنهم خوفا، وشبعهم جوعا وفاقة، ويمسي وطنهم أثرا بعد عين، وشرا بعد خير، وموطئا لكل إرهابي حاقد مجرم يقتل ويسبي ويسفك الدماء بلا رادع من دين، أو مسكة من عقل، أو وازع من ضمير.
فشكراً لك اللهم على أن جمعت كلمتنا، ووحدت صفنا، وكبت عدونا، وسويت أمرنا. رحم الله خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وجعل ما قدمه لأبناء شعبه في موازين حسناته، ورفع مقامه مع الأولياء الصالحين؛ الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ووفق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو ولي ولي العهد الأمين، وسدد خطاهم، وأعانهم لما فيه صلاح البلاد والعباد، يا رب العالمين.
وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا سيدي (عبدالله) لمحزونون.
- د.فهد بن محمد بن فهد العمار