ودع خادم الحرمين الشريفين الدار الدنيا إلى دار الخلد والقرار في هدوء، مطمئنًا راضيًا عمّا قدمه للوطن والمواطنين من مشروعات وخدمات جليلة سوف يظل خيرها يمطر بالنماء والازدهار والاستقرار، ولم يكن الشعور بالخسارة قاصرًا على شعبه، بل عم هذا الشعور شعوب الأمتين العربية والإسلامية، وتعداها إلى العالم أجمع، يشهد على ذلك ما شهدناه خلال الأيام الأولى لفقده من تداعيات الحزن والألم التي عمت أصقاع العالم، وما تقاطر الزعماء والوفود وحرصهم على المشاركة الشخصية في مراسم العزاء، ثم التهنئة للقيادة التي خلفت فقيد الأمة وتسلمت الأمانة من بعده في هدوء إلا تعبير عن مكانة الراحل العظيم واعتراف بفضله على العالم في مناحي كثيرة.
وعلى الرغم من أن إصلاحاته -رحمه الله- لا تكاد تحصى إلا أن سعيه لمكافحة الفساد بإصدار الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد عام 1428هـ، ثم إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عام 1432هـ، أعدهما من أبرز علامات الإصلاح في عهده، إذ كان حريصًا على رعاية الهيئة حين ربطها بشخصه الكريم مباشرة، ومنحها الاستقلال المالي والإداري، وجعلها بمنأى عن تأثير أي جهة كانت، وليس لأحد حق التدخل في مجال عملها، وكان -رحمه الله- حريصًا على متابعة قيام الهيئة ونموها وممارستها لأعمالها، وكثيرًا ما كان يسألني شخصيًا عن وضع الهيئة حتى حين اللقاءات الدورية التي تتم في الديوان الملكي، في المناسبات الرسمية وزيارات الوفود الخارجية، بل إنني أذكر أنه كان يعمل أثناء العطلة الرسمية ويوم الجمعة بالذات ويطلب حضوري أحيانًا، حيث أصلي معه في الجامع الذي يصلي فيه، ثم أذهب لمقابلته في مكتبه الخاص حيث يناقشني في أمور الهيئة، وما عملت، وكان لذلك أثره البالغ في نفسي وفي نفوس منسوبي الهيئة، حيث يبث الحماس فينا ويدفعنا إلى اختصار الزمن للإسراع في بناء كيان الهيئة وقواعد عملها ولوائحها ومباشرة أعمالها، وأجد دينًا علي أن أسجل دعمه المتواصل للهيئة الذي لم يكن له حدود.
الأمر الآخر المهم أنه -رحمه الله- مات مطمئنًا على ترتيب بيت الملك والحكم، وترسيخ قواعده، ولذلك شهد هذا الجانب على يدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله- انتقالاً هادئًا، سلسًا، فوريًا، للسلطة يندر أن يشهده بلد، مهما كان متقدمًا وديمقراطيًا حين يخلو فيه منصب الملك أو الرئيس، فكثيرًا ما يحدث فراغ أو ارتباك قبل أن يتم ترتيب الأمور، لكن هنا في المملكة الوضع كان مختلفًا تمامًا كما شهدنا وشهد العالم أجمع.
إن مآثر الملك عبد الله -رحمه الله- لا تحصى، ومنها إصلاحاته الكبيرة التي خص بها بلده ومواطنيه، لعلي استطيع التذكير بجزء منها.
خذ مثلاً مشروعه لتطوير التعليم الأول، ثم مشروعه الثاني لتطوير التعليم، ثم مشروع تبني الحكومة الإلكترونية الذي يهدف منه إلى مجاراة الدول المتقدمة في مجال التقنية، الذي يعد أيضًا مشروعًا من مشروعات مكافحة الفساد.
ومشروع افتتاح الجامعات في كل منطقة ومحافظة الذي قضى بموجبه على المعاناة التي كان يواجهها المواطنون في إلحاق أبنائهم بالجامعات عند تخرجهم من الثانوية العامة.
ومشروع الابتعاث لكل مؤهل وراغب فيه، للحصول على الشهادات العليا في الدول المتقدمة، واذكر بهذه المناسبة أن عددًا كبيرًا من الكفاءات الوطنية في الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هم من حاملي الماجستير والدكتوراه من خريجي هذا البرنامج.
وهناك مشروع تطوير مجلس الشورى وإشراك المرأة في عضويته، ومشروع فتح مجالات عديدة لمشاركة المرأة في العمل في المجتمع.
ومن أشهر المشروعات مشروعه -رحمه الله- لتوفير السكن للمواطنين المحتاجين إليه، وأمره ببناء نصف مليون وحدة سكنية، ومن أعظم المشروعات مشروعاه الجباران لتوسعة الحرم المكي والحرم النبوي، كأكبر مشروعين للتوسعة شهدهما التاريخ والمشروعات المرادفة في المشاعر المقدسة الهادفة إلى التسهيل على المسلمين في أداء فريضة الحج مثل مشروعات تطوير المرافق كمشروع الجمرات، والقطارات، ومياه زمزم، وتوسعة المطاف والمسعى، التي كان يشرف عليها بنفسه رحمه الله رحمة واسعة، واختاره فيمن عنده، مع الأبرار.
محمد بن عبدالله الشريف - رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد