لم يكن يوم الجمعة الثالث من شهر ربيع الثاني لعام 1436هـ من الأيام التي تنسى في ذاكرة الأمة الإسلامية، حيث ترجل في صباحه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن دفة قيادة الإنجاز والإصلاح والتطوير التي استمرت لعقد من الزمان.
الملك عبدالله الابن الثاني عشر من أبناء الملك عبدالعزيز، والملك السادس للمملكة العربية السعودية، تربى وتعلم في مدرسة أبيه الإمام العادل الملك الموفق عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، واستفاد الملك عبدالله من تجارب والده في مجالات الحكم والسياسة والقيادة والإدارة، إلى جانب مجالسته لكبار العلماء حتى أصبح ذلك سمة واضحة في مجالسه التي لا تستفتح إلا بتلاوة لآيات من القرآن الكريم وتفسير لها.
في سنة 1383هـ-1963م تولى رئاسة الحرس الوطني وكان له دوره الفاعل وبصمته الواضحة في تطوير وتحديث هذا الجهاز العسكري، وفي سنة 1395هـ-1975م أصبح نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء، ثم في سنة 1402هـ-1982م بُويع وليا للعهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء، إضافة إلى عمله رئيسا للحرس الوطني.
وكان من جهوده خلال تلك الفترة: تقديمه تصورا للتسوية الشاملة بين العرب وإسرائيل خلال القمة العربية في بيروت التي تبنتها القمة لتصبح مبادرة سلام عربية متكاملة، وكذلك تأسيسه لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة في مدينة الرياض، وفي الدار البيضاء بالمملكة المغربية، وإنشائه للمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) في عام 1405هـ.
في السادس والعشرين من شهر جمادى الآخرة لعام 1426هـ بويع عبدالله بن عبدالعزيز ملكا للمملكة العربية السعودية، وشهد عهده العديد من المنجزات التنموية العملاقة في مختلف القطاعات: الاقتصادية والتعليمية والصحية والاجتماعية وفي مجال النقل والمواصلات، وهي تشكل إنجازات شمولية تكاملية لبناء الوطن وخدمة المواطن، حتى تجاوزت التنمية في عهده السقف المعتمد.
من المستحيل أن يختلف اثنان على أن عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- كان عهدا لبناء الإنسان وتوظيف جميع مقدرات البلاد لأجل خدمة مصالح الإنسان بالدرجة الأولى أيًّا كان ذلك الإنسان.
استثمر الملك الراحل ثروات البلاد في خدمة الوطن والمواطن ومكافحة الفقر عن طريق تأسيسه للصندوق الخيري لمكافحة الفقر، وتوفير الوظائف وبناء الوحدات السكنية ومساعدة العاطلين عن العمل، (حيث تم تخصيص مبلغ 250 مليار ريال لبناء 500.000 وحدة سكنية في جميع مناطق المملكة).
وفي الوقت الذي كانت الأزمة المالية العالمية تعصف بالدول من حولنا نجح الربان عبدالله بن عبدالعزيز في مجابهة تلك الأزمة ودفع عجلة التنمية والنهضة الاقتصادية في المملكة، وكتحد مع تلك الأزمة المالية العالمية تم الإعلان عن مدينة الملك عبدالعزيز الاقتصادية، ومدينة الأمير عبدالعزيز بن مساعد، ومدينة المعرفة، ومدينة جازان الاقتصادية، ومركز الملك عبدالله المالي، ليس هذا فحسب بل: إنشاء مدينة وعد الشمال الصناعية للاستثمارات التعدينية في منطقة الحدود الشمالية، والتخطيط لإنشاء مدن اقتصادية في رابغ والمدينة المنورة وحائل وجازان وتبوك.
ولا تقل المنجزات السياسية الداخلية والإدارية عن ذلك، حيث تم في سنة 1427هـ-2006م تعديل الفقرة (ج) من المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم التي بموجبها تأسس (نظام هيئة البيعة) لتتولى الهيئة مهمة تأمين انتقال الحكم بين أبناء الأسرة المالكة بكل سلاسة ويسر، فكان الملك عبدالله بحق هو صانع الإصلاح وداعمه، وكانت أولى خطواته: إنشاء هيئة مكافحة الفساد التي ربط مرجعيتها به مباشرة، وكذلك إقامة الانتخابات البلدية لأجل توسيع شريحة المشاركين في صنع القرارات المحلية وخدمة المجتمع.
وعلى المستوى التعليمي، قفزت الجامعات الحكومية من ثماني جامعات إلى خمس وعشرين جامعة من أبرزها (جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية)، وافتتحت العديد من الكليات والمعاهد التقنية والصحية والمهنية، وتم التوسع في برنامج الابتعاث الخارجي وزيادة مكافآت المبتعثين، وإنشاء مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع، ومشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام، فكان ذلك كله نقلة نوعية في مسيرة التعليم واستجابة موفقة للتحولات النوعية في مجال التربية والتعليم.
وشهد القطاع الصحي في عهد الملك عبدالله نقلة نوعية في جميع مجالاته ومنها: تشييد وإنشاء خمسة مدن طبية جديدة والعديد من المستشفيات والأبراج الطبية التي تمثل علامة فارقة في مسيرة التطور والنهضة الحضارية التي تعيشها المملكة، ولعل من النماذج الشاهدة على ذلك: مستشفى الملك عبدالله للأطفال الذي يعد نواة ليكون مركزا عالميا لأمراض الأطفال (خاصة السياميين).
كما شهد عهد الملك عبدالله أكبر توسعة (حجماً وتكلفة) للمسجد الحرام وللمسجد النبوي، وشهد عهده رحمه الله: توسعة المشاعر المقدسة في منى ومزدلفة وعرفات، ومشروع قطار الحرمين السريع، وقطار المشاعر المقدسة، وجسر الجمرات الجديد، وتوسعة المطاف.
وقد شهدت المرأة السعودية اهتماما واضحا ودعما واسعا من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي جسد هذا الاهتمام حين قال في أحد خطاباته: (أنا مخلوق من امرأة)، معلنا بذلك بدء الشراكة الفعلية للمرأة في المملكة العربية السعودية. وترجم الملك عبدالله بن عبدالعزيز هذا المبدأ حينما وصلت المرأة في عهده إلى وظائف المرتبة الممتازة وبمسميات: (نائب وزير ومدير جامعة)، وحينما خصص -رحمه الله- للمرأة جامعة هي (جامعة البنات) وأطلق عليها اسم: (جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن)، شقيقة المؤسس وعمة الملوك ووالدة الأمراء.
ولعلنا أيضاً: نلمس ذلك جليا من خلال الأمرين الملكيين اللذين أصدرهما الملك عبدالله بخصوص تعديل المادة الثالثة من نظام مجلس الشورى التي تنص على ألا يقل تمثيل المرأة في المجلس عن العشرين بالمئة من عدد أعضائه فأصبح عددهن ثلاثين سيدة، وأعطى لكل واحدة منهن حقوقها الكاملة كعضوة في مجلس الشورى مع ضمان تفعيل مشاركتها في لجان المجلس المتخصصة وفق ما ورد في المادة الثانية والعشرين منه، وكذلك الموافقة على مشاركة المرأة في انتخابات المجالس البلدية.
وبهذا فتح الملك عبدالله بن عبدالعزيز المجال أمام المرأة السعودية لتشارك الرجل وتضع بصمتها في بناء هذه الدولة الحديثة وفق أحكام الشريعة الإسلامية السمحة التي هي دستور هذه البلاد والمنهج الذي سار عليه حكامها الميامين وتأسس عليه كيان هذا الوطن الشامخ.
ولعلنا لا ننسى أيضاً: مؤتمر حوار الأديان، والأمر بإنشاء (11) استاداً رياضياً في مختلف مناطق المملكة، وتوسعة سكة الحديد لتشمل القطاع الشمالي للمملكة العربية السعودية، وتحويل رئاسة الحرس الوطني إلى وزارة، وتوجيه وزارة الشؤون الاجتماعية بتحمل تكاليف ذوي الاحتياجات الخاصة عند مراجعتهم مراكز التأهيل الأهلية، وتغيير العطلة الرسمية الأسبوعية إلى الجمعة والسبت.
هذا وكانت زيارات الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعديد من الدول العربية والإسلامية والعالمية رافداً آخر من روافد اتزان السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية وحرصها على مسيرة التضامن الإسلامي والدولي، وتمكن الملك عبدالله بحنكته ومهارته القيادية من تعزيز دور المملكة في الشأن الإقليمي والعالمي سياسيا واقتصاديا فأصبح للمملكة وجودها القوي والعميق في المحافل الدولية وفي صناعة القرار العالمي.
وللمملكة العربية السعودية في عهد الملك عبدالله -رحمه الله- إسهامات واضحة وملموسة في الدفاع عن الإسلام على منهج أهل السنة والجماعة (الوسطية)، وحفظ مبادئ الأمن والسلام والعهود ونبذ العنف والتمييز والإرهاب ومكافحة الجريمة وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية.
اتسم الملك عبدالله بسمات حضارية رائدة قلما نجدها في غيره، أبرزها إنسانيته وبساطته وعفويته وصدقه، ورأينا فيه تفانيه -رحمه الله- في خدمة وطنه ومواطنيه وأمته الإسلامية في كل شأن وكل بقعة من الأرض داخل الوطن وخارجه.
هذه صفحة.. وما زلت أشعر (بل إني متأكد) أن هناك صفحات بيضاء لم أتناولها هنا، ولم يسعفني الوقت لأتحدث عنها، هي مليئة بالإنجازات العظيمة والوقفات الصادقة للملك عبدالله الذي أفنى حياته في خدمة دينه وأمته الإسلامية، لهذا كان الوفاء من أهل الوفاء واجبا، شعبه الذي لم يتأثر بأحداث الربيع العربي وعواصفه رغم وجود الدعوات والتحريض إلى ذلك.
حفظ الله بلادنا الغالية من كل سوء ومكروه، وحفظ لنا حكومتنا الرشيدة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، متعهم الله جميعاً بالصحة والعافية، ورحم الله ملك الإصلاح والتطوير الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته، وأبدله داراً خيراً من داره، وجمعه بأهله ومحبيه في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
د. نايف بن علي السنيد الشراري - عضو هيئة التدريس بجامعة الجوف