فجع الشعب العربي والإسلامي عامة والسعودي خاصة ليلة الجمعة بوفاة قائد الأمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عما قدم لشعبه وأمته خير الجزاء.
بيد أن رحيل الرجال لا يعني نهاية ذكرهم فقد كان لفقيدنا الغالي -رحمه الله- العديد من المآثر الطيبة، والأعمال الجليلة، والذكر الحسن، ما يعزز ذكره بين الناس، ويخلد اسمه في صفحات التاريخ مهما مرت السنون، وتوالت الأيام. فضلا عن أن التكوين الاجتماعي في وطننا الغالي يعزز ذلك ويقويه، فقد بني هذا المجتمع منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز -رحمه الله- على الالتحام بين الراعي والراعية في صور تراكمت عبر الزمن مبهرة العالم الذي يموج بالعديد من أشكال التناحر والاقتتال والصراع المادي والنفسي. فلله الحمد أولاً وآخر وظاهرًا وباطنًا.
وعودًا إلى مآثر الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- أجد بناني في حيرة من أي النواحي يبدأ، فقد كان -رحمه الله- بحرًا من المآثر والإنجازات من أي النواحي أتيته ستجد ما يكفي لتدوين كتب ومجلدات.
وبحكم اختصاصي الأكاديمي سأجعل المقال خاصًا بتدوين بعض إنجازاته -رحمه الله- في حقل التعليم بشقيه العام والعالي.
وحيث تعد مؤسسات التعليم العالي منارات للعلم والمعرفة والبحث والتطوير وبناء المجتمع؛ فقد جعل جلّ اهتمامه -رحمه الله- ورعايته للعلم وتهيئة وسائل الحصول عليه. فمنذ توليه مقاليد الحكم في 26 / 6 / 1426هـ أصدر عددا من القرارات الملكية المتسمة بالشمول والتكامل لدعم حركة التعليم في المملكة، وتعزز بنيتها العلمية والحضارية لبناء وطن مرتكز على أعلى المعايير العلمية؛ لذا تبوأت المملكة مكانة مرموقة في كافة المجالات، وأصبحت رقماً صعباً في العالم.
ومن تجليات ذلك إنشاء العديد من الجامعات في المملكة حتى بلغت عدد الجامعات الحكومية (25) جامعة تضم حوالي (500) كلية تتوزع في (75) مدينة ومحافظة، بالإضافة إلى (10) جامعات أهلية تضم العديد من الكليات، وحوالي (37) كلية أهلية؛ تميزت بالتنوع في مشاربها العلمية والثقافية، إضافة إلى افتتاح جملة من المعاهد التقنية والصحية والمراكز البحثية والعلمية، ودعم المشاريع العلمية المتنوعة؛ لتوفير بيئات أكاديمية متكاملة، للإسهام في تلبية حاجات مجتمعاتها التعليمية والاقتصادية والصحية والثقافية؛ ولذا تسارعت خطوات التعليم العالي في عهده -رحمه الله- نحو بناء مستقبل مشرق لأبناء الوطن وبناته.
وقد توجت تلك الجهود ببرنامج «خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي»؛ الذي يسعى إلى تنمية الطاقات البشرية لأبناء الوطن وبناته وتأهيلها بشكل فاعل؛ لتكون مؤهلة لخدمة المجتمع من خلال دعم القطاعين العام والخاص، إضافة إلى الإسهام في العديد من مجالات البحث العلمي، ودعم الجامعات السعودية بالكفاءات المتميزة والمؤهلة؛ التي تسهم في نشر وتمكين العلوم الحديثة في المؤسسات التعليمية في المملكة. وقد بلغ عدد المبتعثين حوالي (150) ألف طالب وطالبة يدرسون في أكثر من (30) دولة حول العالم وفي تخصصات علميه متنوعة. وتخرج من ذلك البرنامج أكثر من (55) ألف طالب وطالبة.
وفي عهد الملك عبدالله -رحمه الله-، أُقرت رؤية استراتيجية جديدة تتمثل في تطوير التعليم عن بعد، لدعم ومساندة التعليم المنتظم، واستيعاب المزيد من الطلبة، خصوصاً أولئك الذين لا تمكنهم الظروف الاجتماعية أو الجغرافية من الالتحاق بالتعليم المنتظم. ويجمع نظام التعليم عن بعد (الانتساب المطور) بين التعليم وتقنية المعلومات وأنظمة الاتصالات الحديثة مما يتيح للطلاب والطالبات التعلم بطريقة فعالة وسهلة من أي مكان من خلال شبكة الإنترنت والتقنيات المتنوعة. وبناءً على ذلك صدرت الموافقة السامية على اللوائح المنظمة للتعليم عن بعد. وحالياً تقدم بعض الجامعات السعودية برامج البكالوريوس والماجستير في العديد من التخصصات؛ التي تحقق رغبات الطلاب والطالبات، وتوفر احتياجات سوق العمل؛ وفق معايير الجودة المنشودة.
وقد توسعت إنجازاته -رحمه الله- في مجال التعليم لتشمل التعليم العام، ومن ذلك «مشروع الملك عبدلله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام»؛ الذي أقره مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 24 محرم 1428هـ. ويعد ذلك المشروع نقله متميزة في سيرورة من التطور والتقدم؛ لما يمتلكه ذلك المشروع من مميزات نوعية تصب في تطوير حقل التربية والتعليم في وطننا الغالي بما يخلق إنساناً سعودياً متكاملاً، وفق بنية تراكمية من جميع النواحي الثقافية والحضارية والعلمية والاجتماعية والنفسية؛ ابتداء بالمناهج التعليمية، وتأهيل المعلمين والمعلمات، وتحسين البيئة التربوية والتعليمية.
ورغم كل ما ذكر فإن منجزات الراحل تند كثيراً عن الإحصاء والجمع، ولكن حسبي عذرا قول الشاعر:
قد حبر الناس فيك المدح واجتهدوا
وعنك قَصَّرَ ما قالوا وما شعروا
لقد اتسم عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ال سعود -رحمه الله- بسمات تنموية وحضارية تمثل ما اتصف به -رحمه الله- من حرص وحنكة وذكاء، وبذل كل شيء لخدمة وطنه ومواطنيه وأمته الإسلامية والمجتمع الإنساني كافة.
وقد دعم -رحمه الله- الحراك الثقافي في المملكة بدعوته إلى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات، ونبذ التدافع بينها، والحرص على تقريب محاور الخلاف، وتعزيز مواطن الاتفاق. كما حرص -رحمه الله- على نشر ثقافة الحوار في المجتمع، ومن تجليات ذلك جهود مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني؛ الذي يسهم -بصورة جلية- في تشكيل ثقافة مجتمعية قائمة على تقبل الآخر والتفاهم معه، واحترامه، على أساس مبادئ الإسلام القائمة على التسامح، والوسطية، والإقرار بتنوع الثقافات والحضارات، واستغلال القواسم المشتركة بينها لبناء مجتمع عالمي يحفظ لكل إنسان حقه في العيش الكريم. وقد عزز -رحمه الله- ذلك الهدف بإطلاق جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة؛ ذلك أن الترجمة تعد وسيلة مهمة لبناء جسور تواصلية بين الأمم والشعوب، وخلق نهضة علمية وفكرية وحضارية قائمة على الترابط بين المجتمعات الإنسانية.
وأنا على يقين بإذن الله تعالى بأن هذه الإنجازات العظيمة وهذه الخطوات التنموية الجبارة ستحقق المزيد من التطور والنماء والازدهار في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، يعاضده ويسانده ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز حفظهما الله.
وختاماً أجدد البيعة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، سائلاً المولى -عز وجل- لهم التوفيق والسداد لما يحبه الله ويرضاه ولما فيه خير للوطن والمواطن. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. عبد العزيز بن سعد العامر - عميد التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية