نعم، الموت الحق، نستقبله بقلوب يملؤها الإيمان بقضاء الله وقدره، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون} «سورة يونس؛ الآية 49»
نعم، في ساعات الصباح الأولى من يوم الجمعة 2 ربيع الثاني 1436هـ الموافق 23 يناير/ كانون ثاني 2015م، مات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز؛ ملك المملكة العربية السعودية.
لقد مات -رحمه الله- لكن إنجازاته الجليلة لم تمت، المشروعات الرائدة العظيمة التي تحققت في عهده لم تمت؛ أعماله المتشعبة في كل مناحي الحياة لم تمت، بل بقيت شامخة تحاكي حاجيات الإنسان في مختلف شئونه. نعم إنها باقية لتشهد على وفائه وحرصه على مصلحة المواطنين بعامة، وذوي الدخل المحدود بخاصة؛ والمتأمل في الأهداف التي تحققت، ولم تزل تتحقق، وكلها تقدم الدعم والتعضيد والمؤازرة للمواطنين، يدرك، ليس فقط بعد نظره -رحمه الله-، بل وتحسسه لنبض مواطنيه؛ وأذكر هنا على سبيل المثال وليس الحصر، ما تحقق للمجتمع اقتصادياً؛ فهناك «مدينة الملك عبدالله الاقتصادية»، و»مركز الملك عبدالله المالي»، و»صندوق الاستثمار لذوي الدخل المحدود»، وفكرياً واجتماعياً هناك «هيئة حقوق الإنسان»، و»مركز الحوار الوطني»، وتعليمياً هناك «الجامعات التي قفز تعدادها من سبع جامعات إلى ثماني وعشرين جامعة، ومن أبرزها جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية» التي حققت مكانة عالمية مرموقة قياساً بعمرها الزمني، أما عمرانياً فيكفي المرء مشاعر الفخار إذا ما تأمل تلك التوسعات التي تم إنجازها والتي لم تزل تحت الإنجاز للمشاعر المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إضافة إلى الوحدات السكنية التي تم إنشاؤها لذوي الدخل المحدود من خلال مؤسسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه للإسكان التنموي.
ولم تقتصر إنجازاته -رحمه الله- على الداخل السعودي، بل امتدت يداه بالخير إلى العالم أجمع، فكانت له -رحمه الله- وقفات حازمة انحيازاً لقضايا الأمة العربية والعالم الإسلامي، ولاسيما قضيتنا الفلسطينية، وكانت له وقفات حازمة كذلك في الإصلاح بين الأشقاء من العرب والمسلمين، وكانت له وقفات كريمة في مد يد العون السخية للمحتاجين من المسلمين وغير المسلمين، وكانت له نداءات صارخة في إطار سعيه لتحقيق السلام والأمن للإنسان، ولاسيما جهوده في الحوار بين الأديان والحضارات لتعزيز التسامح والأمن بين شعوب العالم.
أما على الصعيد الفلسطيني فلم أزل أقف أمام بصمات خالدة للملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله-؛ وأشير هنا إلى بصمتين اثنتين فقط؛ لمعانقتهما المواطن الفلسطيني على أرض فلسطين المغتصبة؛ أولاهما تتمثل في اتفاقية التعاون المشترك التي تم توقيعها بموجب التوجيهات السامية بين «المملكة العربية السعودية ممثلة في اللجنة السعودية لإغاثة الشعب الفلسطيني بغزة» من جهة، و»برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» من جهة أخرى، لإنشاء مشروع بناء يضم ثلاثمائة وحدة سكنية للمتضررين والمحتاجين في مدينة رفح الفلسطينية، بتكلفة مالية قدرت بأربعين مليون ريال سعودي.
والبصمة الثانية تتمثل في الحيين السعوديين اللذين أقيما على أرض رفح في جنوب قطاع غزة في فلسطين الحبيبة، ويشتملان على ألف وخمسمائة وإحدى وسبعين وحدة سكنية بكامل بنيتها التحتية ومرافقها الخدمية، يستفيد منها خمسة عشر ألف مواطن فلسطيني. وقد نقلت الأخبار بعضاً من انطباعات الفلسطينيين الذين تسلموا مفاتيح وحداتهم السكنية بعد تشردٍ دام ما يقارب العشر سنوات من المعاناة بعد أن هدم الاحتلال الصهيوني منازلهم في عامي 2003م و2004م.
أسأل الله العلي العظيم الرحمة والمغفرة لعبدالله بن عبدالعزيز؛ حامي الديار، وحاضن التراث، وداعم الحضارة، وباني النهضة. وأسأله جلت قدرته الصبر وعظيم الأجر للشعب السعودي النبيل، ولأبناء الجاليات المقيمة على أرض هذا الوطن الآمن المضياف، وللثكالى واليتامى والمحتاجين الذين طالما اقتاتوا من أعماله الخيرية -رحمه الله-.
وإذ نرفع صادق العزاء والمواساة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ولولي عهده الأمير مقرن بن عبدالعزيز، ولولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، في فقيدكم، وفقيدنا، وفقيد الأمتين العربية والإسلامية، وفقيد الإنسانية، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، لندين لهم بالسمع والطاعة والولاء، سائلين الله سبحانه وتعالى أن يعينهم ويشد من أزرهم، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، وأن يريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، وأن يوفقهم للمضي قدماً نحو الأمن والخير لبلدهم ولشعبهم وللمقيمين على أرضهم، ونحو تحقيق النصر والحرية لفلسطين ولشعبها ولأرضها ولمقدساتها، ولأبناء الأمتين العربية الإسلامية حيثما وجدوا، وللإنسانية جمعاء في كافة أرجاء المعمورة، إنه ولي ذلك والقادر عليه..{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.