حينما يمسك الإنسان بالقلم ليكتب رثاءً لقريب أو صديق فإن اليد تهتز، والقلم يميل يمنة ويسرة غير مستقر على حال حزناً على الفراق؛ فالإنسان يتذكر السنين الماضية، وما تخللها من مواقف وذكريات.. نعم، هذه هي حالي وأنا أمسك القلم لأكتب عن صديق عز علينا فراقه، هو أخي أبو محمد، ناصر بن عبدالله القريوي. تذكرتُ المواقف الرجولية التي برزت منه؛ فعندما كنت يافعاً بعد تخرجي من كفاءة المعلمين - ثالث متوسط، تم تعييني في بلدة رماح آنذاك معلماً ومديراً للمدرسة، وكان أخي أبو محمد من وجهاء البلدة ورئيس شرطتها، وكان عمره آنذاك لم يتجاوز الأربعين عاماً، وكان ابنه محمد من جملة طلاب المدرسة؛ ما جعل علاقتي ومعرفتي به تزداد ترابطاً، وكان بالنسبة لي نِعم الموجِّه ونِعم الأخ، بل كان لي بمنزلة الوالد الذي أقضي جُل وقتي معه، فكان نِعم الرفيق. ومن ذلك الوقت قويت صلتي به، ولم أجد منه إلا كل كرم ومشورة واحترام.. واستمرت علاقتي معه وصلتي به حتى وفاته - رحمه الله -. ففي صباح يوم الأربعاء 16-3-1436هـ وصلتني رسالة هاتفية هدت كياني، وزلزلت وجداني، من ابنه محمد مخبراً عن وفاة والده، فلا نقول إلا ما قاله ربنا جل في علاه {إِنَّا لِلّه وَإِنَّا إِلَيْه رَاجِعونَ}.
كتب الله الموت على خلقه؛ فالموت حق، والناس يموتون فـ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ..} (185) سورة آل عمران، و{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْه رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} سورة الرحمن (26، 27)، .{وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (34) سورة الأعراف.
انتقل إلى رحمة الله تعالى بمشيئته وتقديره تاركاً وراءه حزناً كبيراً من معارفه وأقربائه ومحبيه، كلهم فقدوه، وبكوا عليه.. فكم من قريب وصديق بكاه، ومن فقير ومحتاج فجع بموته، فبرحيله اعتصر القلب لوعة وحزناً وحسرة. كان رحمه الله متصفاً بالصدق والإخلاص والشجاعة والأمانة، كان عصامياً في حياته، مخلصاً في تعامله، واضحاً في سلوكه ومسلكه، واصلاً لرحمه ومعارفه، لا يغتر من فعل الخير والذكر الحسن، فكان يتلمس حاجات الناس من الفقراء والمساكين والمساهمات الإنسانية في المشاركة في عمارة المساجد والجمعيات الخيرية.. كان يرى الخير في محبة الناس ومساعدتهم.. كان كريم النفس، سخي اليد.. كان بيته واستراحته مفتوحَيْن لاستقبال الناس، وكان من كرمه أن أعطى كل شيء دون أن يبقي لنفسه شيئاً إلا ما يسد حاجته. يفعل الخير، ولا ينتظر ثوابه إلا من الله تعالى، فقد وطّن نفسه على الإيثار وحب الناس، وعودها على العطاء والكرم. فالحمد لله الذي له ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وكل شيء عنده بمقدار. رحمك الله وجزاك عنا خير الجزاء. اللهم ألهمنا وأبناءه وبناته الصبر، وأجرنا جميعاً في مصيبتنا، واجمعنا ووالدينا به في مستقر رحمتك يا الله.
اللهم اغفر له، ووسع مدخله، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأنزل عليه البهجة والنور، والفسحة والسرور، اللهم ارفع درجاته في عليين، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله يا سميع الدعاء.
فالموت حق، وهو حقيقة نعايشها كل يوم، فكل يوم نُودع راحلاً، ونُعزي في فقيد، إلا أن فقد المحبين يكون مؤلماً على النفس البشرية. إن في القلب لوعة، وفي الحلق غصة، وفي العين ألف دمعة لفراقك يا أبا محمد.
فلكل عين حق مِدرار الدما
ولكل قلبٍ لوعة وثُبور
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى
وغدَت بقلبي جذوة وسعير
قد كنت لا أرضى التباعد برهة
كيف التصبر والبعاد دهور
أبكيك حتى نلتقي في جنة
برياض خُلد زينتها الحور
نعم، أبكيك يا أبا محمد، وقد كثر الباكون، فالقلوب تحزن، والعيون تدمع، ولا نقول بعد ذلك إلا ما يرضي الرب سبحانه وتعالى: {إنا لله وإنا إليه راجعون}.
اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.
إن من نعم الله وفضله على الإنسان أن رزقه الله نعمة النسيان، وإلا لما هنئت نفس بعيش، قال أحد السلف: كل شيء يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة؛ فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر.
وهناك قول مأثور عن توطين النفس على المصائب، فمن أراد البقاء في هذه الدنيا فليوطن نفسه على المصائب، فإنه متى طال عمر الإنسان، وامتدت به الأيام، فلا بد أن يلقى منها أوجاعاً مضاعفة من رحيل عزيز حل أجله، أو مرض يخرم جسده. وفي توطين النفس على المصائب قيل في ذلك شعر:
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له
رزية مال أو فراق حبيب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه
على نائبات الدهر حين تنوب
فالمسلم معرض في حياته للنقص في الأموال أو الأنفس لقصد اختباره لمعرفة مدى صبره على طاعة الله، ولإظهار ما عليه المرء من قوة إيمان أو ضعف.
وفي حياة الإنسان وقصرها، وأنها لا تدوم لأحد بعد اكتمالها وطيب عيشها وسرورها وحزنها، يقول أبو البقاء الرندي في ذلك شعراً:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سرّه زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
أقول ذلك وأنا أتذكر القول المأثور «إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر».
أتقدم بخالص العزاء وصادق المحبة والمواساة والدعاء إلى أسرته الكريمة، متمثلة بزوجته أم عمر وأبنائه محمد وحسن وبدر وعمر وخالد ومشعل وفهد، وبناته دلال وهيا وصيتة ووسمية.
داعياً الله العلي القدير أن يغفر له، ويرحمه، ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين.
- د. علي بن عبدالرحمن الطيار