لا أظن، أن الأمّة، بحاجة إلى من يبصّرها بأمور دينها وصلاح أمرها وحياتها، مثل اليوم، الذي نرى فيه (العواصف والقواصم) من حولنا، تفتقد للعواصم، من ويلاتها، كل ما يحدث، بسبب فقدان العقل السوي، وإن وجد هذا العقل، لم تجد من يسمع له، وكل يوم يُقبل، تشتد حاجة الناس إلى عالم رباني، قد وصفه الباري جل شأنه، بقوله ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) هذا الصنف من العلماء، هم ورثة الأنبياء، يُهدون الناس إلى الحق المبين، ويرشدونهم للصراط المستقيم، ويبعدونهم عن مظلات الفتن، فهم منارات الهدى، ومصابيح الدجى، يقابلهم داعية الهوى، من أحسن زخرفة الألفاظ، وأجاد سبْك العبارات، وبرع في شقشقة الكلام، يحاكي الدجال (مسيلمة الكذاب) حتى بات من أحفاده، يقفو ما ليس له به علم، ويتكلف ما لا يعنيه، قصده من العلم، التنعم بالدنيا، والتوصل إلى المنزلة عند أهلها، العالم الرباني، عزّ وجوده في هذا الزمان، إلا من رحم الله، وقليل ماهم، رأينا من المتعالمين، من الدعاة والوعاظ، من يسابق العلماء الربانيين في الظهور، وخاصة في وسائل الإعلام، يغتنم فرصة زهدهم وورعهم، رأينا من يستغل الدين في إشباع رغباته الشهوانيّة والجاهيّة والماليّة، رأينا من يسابق العلماء الربانيين في التصدر للفتيا، ولا نعتقد أن كل من كان فصيحاً، بليغاً في خطبه، مشهوراً بين الناس، بكثرة ظهوره على شاشات القنوات الفضائية الربحية، أو كثرة محاضراته، أنه عالم يرجع إليه، خاصة في النوازل والفتن التي تصيب الأمة، كما حالها الآن وللأسف، وإذا أدركنا أن العالم الرباني، هو ما يتصف بخشية الله سبحانه، ويعمل بعلمه ويخلص لله عز وجل، ويربّي الناس على الخير، ويتدرج بهم شيئاً فشيئاً، فلا غرو أن قال بعض السلف (العالم الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) وللعالم الرباني، مزيد من الخصائص التي ترفع من قيمته، ليس هذا مكانها، ولكن لعل في ما ذكرته فيه الكفاية، وقد قيل (لعله يكفي من القلادة، ما أحاط بالعنق) ولو أردنا أن نلقي مقارنة ولو بسيطة بين العالم الرباني، ومن تسمى بالداعية، لقلنا أن أساس المشكلة، في منهجية الدعوة، عند من تشبّث بالإعلام، وأطلقت عليه في عنوان هذا المقال (بالداعية الإعلامي) إن جاز التعبير، هذه المنهجية، تختلف عنها، عند العالم الرباني الذي ذكرت جزءاً من خصائصه وصفاته، فالداعية الإعلامي يتحدث عن كل شيء، وفي كل وقت، وهو في تواصل دائم مع الناس،مما كوّن لنفسه (مرجعية) معتبرة عند عشاقه، فإذا حزبهم أمر هرعوا إليه، حتى أنك ترى رأي هذا الداعية، قد تدخل في كل شئونهم الحياتية، واصطبغ رأيه بالقداسة، لأن التدين منطلق له، وأصبح الناس يسألونه عن كل شيء، ونشوة التصدر قبل التأهل تلك، جعلت له سهماً في كل ميدان لا سيما السياسة، وقد شاهدنا كثيراً من دعاة ووعاظ اليوم، كيف كانت تدخلاتهم، وتحريضاتهم للشباب، مزينين لهم الجهاد في بؤر الفتن حولنا، مخالفين بذلك رأي العلماء الربانيين وتوجيهات حكومتهم، فتعلق الشباب بتلك التحليلات والتخرصات لهذا الداعية وذاك، الذي لا يشق له غبار في نظر هؤلاء الرعاع، أما العالم الرباني، فمنهجه في الدعوة إلى الله، امتداد للمنهج النبوي القويم، وهو المنهج الصحيح والغائب عند من ظن أن الداعية المتصدر للساحة، هو الأعلم، والمدرك للنوازل، لما يراه هؤلاء الدهماء من حضور طاغ لداعيتهم في كل واقعة ومشهد، وما يرونه فيه من شجاعة قولية، هي في حقيقتها تهور، وقلة حكمة، لذا صار قوله مقدماً على أقوال العلماء والحكماء، وبالمناسبة فقد كتبتُ في هذه الجريدة قبل فترة مقالاً حول هذا السياق بعنوان (تقديس الأشخاص) وهو عبارة عن قراءة نقدية سريعة لحال شباب اليوم مع بعض الوعاظ، الذين يحلو لهم تسميتهم بالدعاة وهم ما برحوا في حلقة لقب (الواعظ) في نظري، أضفوا عليهم هالة من التقديس، لم نكن نعلمها من قبل وحتى في تاريخنا الإسلامي، ابن الجوزي رحمه الله، رأس في الوعظ، ويطلق عليه (شيخ الوعاظ) في عصره، لم يضره هذا اللقب، بل يفتخر به، وبعض دعاتنا، يا ويلك ويا سواد ليلك، إذا أطلقت عليه لقب (واعظ) هو يريد الداعية فلان، وبوده لو أطلق عليه (العالم) فلان، وقد اقترحتُ على وزارة الشئون الإسلامية إعادة النظر في لقب الداعية في مناشطها الدعوية، واستبداله بلقب الواعظ الفلاني، فثمة فروقات بين اللقبين، فكل داعية واعظ، وليس كل واعظ داعية، كما أن كل عالم داعية، وليس كل داعية عالم، وقد سبق أن كتبتُ بهذا الشأن أيضاً، مقالاً في هذه الجريدة بعنوان (من قال لا أدري فقد أفتى) أتمنى على الجهات المختصة، سواء كانت الرئاسة العامة للإفتاء أم وزارة الشئون الإسلامية، إعادة تصنيف هؤلاء كل بحسبه، حتى لا يختلط أمرهم على الناس، ويراعى في ذلك، إنزال الناس منازلهم، بقي القول، نعم للعالم الربّاني، ولا وألف لا، للداعية الإعلامي... ودمتم بخير.