لا أخفي أن في النفس شيئا من هذا العنوان، إذ كيف يوضع اسم ابن عثمان موازيا لهرم من أهرام العلم والبحث العلمي، وعالم من علماء المخطوطات الذي قلّ نظيره في هذا العصر، ولكن لو جازته انقاد القلم معنوناً بمفرداته، فرحم الله الدكتور العثيمين رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وبهذه المناسبة الموجعة، أقدم خالص العزاء إلى أسرته الكريمة وجميع ذويه ومحبيه وإلى المشتغلين كافة في المجال العلمي والثقافي في هذا الوطن الكريم.
ومنذ أن سمعت عن الفقيد واطلعت على بعض تحقيقاته وجهوده في عالم التراجم والمخطوطات، حرصت على الالتقاء به ولم يتيسر ذلك لتسويف وتقصير مني رغم الرغبة الأكيدة في ذلك. وكم من الفضلاء الذين يرغب الإنسان في لقياهم والاستفادة من علمهم وخبراتهم ثم تسبق كف القدر لمصافتحهم والذهاب بهم إلى ما وراء المعلوم، ومن أولئك سعادة الدكتور الأديب محمد بن سعد بن حسين -رحمه الله- الذي غاب عنا منذ مدة. ولا شك أن فقد هؤلاء الأساتيذ وأمثالهم، وبخفوت أنوارهم تسودُّ صفحات القلوب قبل فضاءات الليالي.
أعود للدكتور العثيمين الأستاذ السابق في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، مكرراً الدعاء له بالرحمة ولأقول أيضاً: إنه رغم حرصه المستديم على عدم الظهور الإعلامي وإجراء المقابلات المقروءة والمسموعة والمرئية، إلا أن إحدى قنوات التلفزة الفضائية استطاعت أن تحصل منه على مقابلة مرئية جاءت في ثلاث حلقات، ثم مقابلة أخرى في حلقتين تخللها الحوار الهادف والفائدة العلمية، وقد اعتنى الفقيد بالتراث العربي ومخطوطاته، خاصة ما يختص بعلم التراجم، عناية قلّ نظيرها. وأرخص فيها الوقت والجهد، وكان بحاثة عنها بجلد وصبر داخل المملكة وخارجها، وتكررت أسفاره إلى العديد من الدول في سبيل الحصول عليها. قال عنه فضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد -رحمه الله- في مقدمة «السحب الوابلة».. الذي شاركه الفقيد في تحقيقه: (تولى فضيلة الشيخ عبدالرحمن تحقيق الكتاب وتخريج تراجمه، وتدارك الفوتِ على مؤلفه بحواش ممتعة حسان مشبعة بالعلم والتحقيق، جامعة لعزيز الفوائد، والتدقيق في التراجم، ولمّ شتات «البيوتات الحنبلية» بما لا يقوى عليه إلا هو، ولا أقول مثله، لأنه في زماننا متفرد بخدمة تراجم علماء المذهب عن تحقيق وتدقيق وبصيرة نافذة في تحرير التعاليق -أجزل الله مثوبته، وجعله في ميزان حسناته-. انتهى.
وقال الفقيد قي مقدمة تحقيقه لكتاب «الدر المنضد..» للعليمي، ت 928هـ، التي أعدها في شعبان سنة 1408هـ: (.. منذ ما يزيد على ست سنوات خلت أجمع تراجم علماء الحنابلة من الكتب مخطوطها ومطبوعها، وجعلت هذا العمل همي، ولم أشغل نفسي بشيء سواه.. وفي سبيل هذا العمل حققت نصوص بعض كتب الطبقات). انتهى، ومن كتب التراجم التي أكمل -رحمه الله- تحقيقها، كل من «المقصد الأرشد في تراجم أصحاب الإمام أحمد» للإمام برهان الدين ابن مفلح المتوفى سنة 884هـ ومختصر «المنهج الأحمد..» المعروف بـ»الدر المنضد..» الذي صدر في طبعته الأولى سنة 1412هـ مخدوماً بفهارسه في جزأين، كما أن له القدح المعلى في تحقيق «السحب الوابلة..» المذكور بأجزائه الثلاثة، ولم تقتصر تحقيقاته على طبقات الحنابلة فقط، فقد قام -في سنواته الأخيرة- بتحقيق طبقات الشافعية أو المالكية -الوهم مني الآن- ولا تزال مخطوطة لم تطبع. وهذا يدل على شموله وعدم تعصبه للمذهب، وله من الجهود الأخرى غير ذلك، كما أن له مواقف تذكر في جمع المخطوطات وتقصي النادر والنّاد منها، وعلاقته بأهلها وعلمائها، وقد تحدث بنفسه عن بعضها، ويلاحظ صبره وقوة عزيمته وتحمله على بعض تلك المواقف التي لو جرت لغيره لما اسطاع احتمالها، ومن ذلك ما ذكره في مقابلته الأولى مع عالم المخطوطات السوري الدكتور النفّاخ -رحمه الله- في دمشق وغيره. وهكذا يكون رجال العلم وعشّاقه المحتسبين الصابرين الجادين الذين عاشوا له وبه دراسةً وتحصيلاً وتعليماً وتأليفاً ودربةً ودراية. والله المستعان.