أصحيح أن الفقير تحقره الأقوام وهو لبيب؟ وأيهما أفضل: القناعة والزهد أم الترف والبذخ؟ وأيان يمثل العدل: في الإنتاج أم المبادلة أو الاستهلاك؟
فقد تبارى المفكرون في فهم التجربة الاجتماعية الإنسانية في التاريخ وبذلوا قصارى جهدهم في تفسيرها إما بإحساس الإيمان الديني أو ببراعة الفكر العقلي أو براعة التأويل الاقتصادي.
فهذا ابن خلدون رحمه الله يبرز العامل الاقتصادي ويبين أهميته في التاريخ الاقتصادي، فأبرز دور الاقتصاد في تطور المجتمع الإنساني.
ونحن نسمع اليوم في كل مكان وكل ثقافة إلحافاً على الإنسان الاقتصادي بوصفه قوام كل إنسان وكل مجتمع في نظر معظم الاقتصاديين المعاصرين.
بيد أن الإنسان الاقتصادي في الحقيقة والواقع العملي هو مجرد تصور شأنه شأن تصور المفكرين ضروباً أخرى مثل: الإنسان المدني والإنسان الميتافيزيائي والإنسان الضاحك والإنسان الكادح.
ذلك انه لا يجوز تفكيك إمكانات الإنسان والنظر إلى كل إمكانية نظرة تمييز أو تمجيد.
فالإنسان عند ابن خلدون رحمه الله يفقد سمة الرجولة أن ترفع عن مباشرة حاجاته أو عجز عنها أو رُبي على خُلق التنعم والترف.
والإنسان عند الراغب الأصفهاني رحمه الله مسافر ومبدأ سفره الهبوط من الجنة ومنتهى سفره دار السلام، وهو بينهما محتاج إلى الكدح والكبد، في حين انه مجبول على طلب الراحة.
وفي نظر وسترمارك فالإنسان بفطرته يميل إلى الكسل والدعة ليس لأن النشاط العضلي ينفره، بل لأنه يكره رتابة العمل المنتظم وهو بوجه عام لا يُدفع إلى العمل إلا لسبب خاص يجعله يرى أن العمل جدير بالعناء المبذول في سبيله.
إن ابن خلدون رحمه الله كان رائداً في نظرته لوقائع الرزق والكسب والنفع حيث يرى أن مرد الحياة الاقتصادية إلى العمل الإنساني باستثناء فئة المترفين الذين يخالفون الرجولة الإنسانية بتخليهم عن العمل ولاسيما العمل المباشر.
وعند ابن خلدون رحمه الله ان قيمة العمل تربو في الصناعة وتدخل في صلب عمليات الإنتاج والاستهلاك والأسعار والبيوع.
ثم تطورت المجتمعات الإنسانية بعد ذلك ومرت بأطوار كان العمل فيها قطافا ثم رعيا، فزراعة، وتبدل الاستهلاك بتطوره من الاقتصار على الضروري إلى الكمالي، ومن استهلاك الحاجة إلى استهلاك الترف، وتبلورت قواعد التجارة والنقل والمبادلات وقوانين السوق بين عرض وطلب وظهرت أساليب الاحتكار والاقتراض واعتماد قيمة الذهب والفضة والادخار.
إن الاقتصاد عند الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله ينطلق من قاعدة الوسط الماثل في قوله سبحانه ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً .
وطبّق العز رحمه الله هذه القاعدة على شتى ضروب الخير والاقتصاد من الاقتصاد في استعمال مياه الطهارة حتى الاقتصاد في المواعظ وفي العبادات.
وهذا الاقتصاد الاقتصادي مرغوب في الكلام وفي الأكل والشرب والسير وزيارة الإخوان ومخالطة النسوان وحتى في دراسة العلوم والسؤال عن الحاجة والمزاح والضحك والمدح المباح.
- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية