اختلف النقاد والباحثون في الاحتكام الى تعريف مشترك لمصطلح أو مفهوم (الشعرية)، فهي مثلا تتحقق من الناحية النوعية عند ادونيس عن اربع طرق:(1) أولا: التعبير نثريا بالنثر، ثانيا: التعبير نثريا بالوزن، ثالثا: التعبير شعريا بالنثر، وأخيرا:ا لتعبير شعريا بالوزن،
وضرب أمثلة على ذلك،وقد تم تصنيف الشعرية اللسانية وأهم أعلامها رومان جاكبسون ومن سلك دربه مثل ليفين وايريفي،واتجاه الشعرية اللسانية البلاغية وأهم من صار من أعلامها وسار في ركابها جان كوهين ومولينو وطامين ضمن الشعرية البنيوية(2)،فقد عد كوهين اللغة العادية أو اليومية معيارا ثابتا تقاس على غراره الأنزياحات، وتقدم آراؤه اسهاما بارزا في ميدان الشعرية اللسانية، إذ تتبلور نظرته إلى الانزياح الذي يتمثل في الخروج عن قوانين اللغة وانتهاك معاييرها(3)،فالاشياء عند كوهين)) ليست شعرية الاّ بالقوة ولا تصبح شعرية بالفعل الا بفضل القوة فبمجرد ما يتحول الواقع الى كلام يصنع مصيره الجمالي بين يدي اللغة فيكون شعريا إن كانت شعرا ونثريا إن كانت نثرا، قد تكون هذه اللغة موزعة توزيعا غير متكافىء،وقد توحد أشياء ذات نزوع شعري)) (4)، ومنهم من قال إن الشعرية تعني ما يجعل العمل الأدبي أدبيا(5)، ويقول ناقد عراقي:((تتمحور اشتغالات الشعرية في استقصاء القوانين التي استطاع المبدع التحكم بواسطتها في إنتاج نصه، والسيطرة على إبراز هويته الجمالية، ومنحه الفرادة الادبية))(6) وسنتجاوز عددا كبيرا من التعاريف والمقاربات التي تحاول أن تقدم لنا (الشعرية)بصورتها المتكاملة، ونصل إلى (شعرية القراءة) كما يحدثنا عنها أدونيس فيقول:
(( نقد القراءة: هذه مسألة تكاد تكون غائبة عن مجال اهتمامنا الأدبي، وفي ظني أنها قضية أساسية ملحّة، لا بكونها نوعا من نقد النقد وحسب، بل لأنّ للقراءة أيضا جمالية خاصة تفقد، حين تفقدها، جدواها وقيمتها، إن قراءة النص الأدبي تقتضي أدبية القراءة، وتلقّي الجمال يفترض جمالية التلقي، أو لنقل إن أدب الكاتب، يوجب أدب القارئ))(7).
ويصف أحد النقاد (ق ق ج) أو القصة القصيرة جدا بأنها:
((كرة اللهب الحارقة، وبالرغم من رهافة بنيانها، تأتي القصة القصيرة جداً، فناً سردياً يستعصي على التنميط والقولبة على مستويي الشكل والمضمون، من هنا تأتي إشكالية وجودها بين حدين متناقضين من سبل التعامل معها، سواء على مستوى الإبداع أو التلقي))(8)
القاصة شيمة الشمري امتحنت فعلها السردي في كرتين من اللهب، هما (أقواس ونوافذ) والمجموعة الثانية(عرافة المساء)، ونحن ههنا اخترنا مجموعة (أقواس..) لندخلها في مشرحة النقد آملين ومؤملين أن القاصة الشمري لم تقع في كمائن النص السردي، وأنها أتقنت لعبة التفوق والإبداع بعيدا عن مزالق المغامرات اللغوية التي ابتلعت دواماتها كثيرا من المغامرين والمقامرين في بحر الكتابة القصصية والقصة القصيرة جدا بالذات.
(أرق:
تحلقوا حول الطاولة
لمناقشة قضيتهم المؤرقة..
تعالت أصواتهم بالصراخ..
تألمو كثيرا..بكوا كثيرا..ثم تفرقوا
فناموا طويلا!) المجموعة:7
تشتغل هذه الومضة السردية الساخنة على شعرية التضاد، ومثلما تشتغل على التضاد، كذلك تشتغل على جدليات كثيرة منها، جدلية المفارقة، والمفارقة كما يقول (جوته): ((هي ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبول المذاق)) (9) أو كما يقول (كيركيكارد ) عنها: ((ليس من فلسفة حقيقية ممكنة من دون شك، كما يدعي الفلاسفة، كذلك قد يدعي المرء أن ليس من حياة بشرية أصيلة ممكنة من دون مفارقة)) (10)، وخلاصة القول إن الأدب الجيد جميعا يجب أن يتصف بالمفارقة - (11)
والمفارقة في هذا النص هي (مفارقة التنافر):
تحلقوا ) تعالت أصواتهم) ( تألموا ( بكوا ( ناموا
وتتشكل بنية التضاد من خلال جدلية (الأنا) و(الآخر) في نص (سير ذاتي/سير غيري):
(مأساة:
عندما قطفوها وبدأوا بنزع أوراقها ورقة ورقة
لا أدري لم شعرت باختناق ومرارة!
لا أدري لم شعرت أنها..- أنا..!
ربما كنت مثلها في يوم ما قبل أن أجف وتتطاير أجزائي مع الهواء
لأشهد مأساتي كل يوم!)) المجموعة:ص25
ويبدو أن المفردات المؤلفة لبنية التضاد في النص، تعمل على انجاز مفارقة دلالية وصورية فيما بينها، عبر عنصر الصراع الذي يحصل عادة بين المتضادات، فـ (( بما أن الكلمات المتضادة تصر دائما على إقصاء بعضها البعض، فإنها تصبح سجينة طاحونة من الانزياحات المختلفة والممكنة التي توهم ببنية مفتوحة مستحيلة الإنهاء وذات نهاية اعتباطية )) (12)، وهذه النهايات تعمل على مضاعفة طاقة الأداء الأسلوبي المنتج لجماليات النص:
(جهاد:
قتلوا المناضل ورموا جثته قرب الطريق الفاصل بينهم وقريته..
نبتت أشجار غريبة على هذا الطريق ..
من جهتهم كانت الأشواك التي منعتهم من دخول القرية،ومن ال جهة الاخرى انتشرت ورود صغيرة بيضاء عطرت سماء القرية بالشهادة..) ص:23
يرى الدكتور جاسم خلف الياس أن ( ق ق ج) أي القصة القصيرة جدا تتسم باللغة الشعرية إيحاءً وتلميحاً وترميزاً وانزياحاً(13)
أن قصص شيمة الشمري القصيرة جدا، تمتاز إضافة إلى ذلك بوعيها العالي وتكثيفها السردي وقدرتها على الإدهاش وصناعة صدمة تؤسس لنهايات ساخنة وصاعقة:
((ق ق ج :
تلك الجميلة المشرقة، بتفاصيلها الجذابة، وملامحها الهادئة، أنجبت مؤخرا فتاة صغيرة حدا لكنها قاتلة!)) ص:35
إن التضاد بصيغه المتعددة يمثل أسلوبا يكسر رتابة النص وجموده بإثارة حساسية القارئ المتلقي ومفاجأته، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف، تتضاد فيما بينها، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه .(14)، ويحلق في فضاء جمالي خاص، ويحرضه على الحوار والتفاعل، وإعادة إنتاج المعنى، إذ ((ليس هناك نص أدبي لايخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارئ أن يملأها )) (15) .
كما أن التضاد من أكثر الأساليب قدرة على إقامة علاقات جدلية بين النص من جهة والقارئ من جهة أخرى .
إن ظاهرة جمع المتنافرات نجدها عند القاصة شيمة الشمري تتجلى بوضوح في نصوصها، وهي تبحث عن سردنة(التابوات= التابو السياسي + التابو الاجتماعي ) وتصنيع الأسئلة الممنوعة أو المحظورة في أقل تقدير:
((لسان:
جلس منتشيا بانتصاراته عليهم جميعا..
أرخى رأسه على حافة المقعد وابتسامة النصر تشد قسماته
من النافذة القريبة أطل لسان طويل!
اقترب منه والتصق به..صرخ!
لسان آخر تعلوه أشواك صغيرة يقبل عليه.- وثالث يتلوى كأفعى
رمل تبحث عن ملدوغها..يصرخ مستنجداً..
بينما الالسنة تجلده..تسحبه..تلتصق به وتبتعد بحركة مفاجئة..
تنتزع عنه جلده بشكل سريع!!
تكاثرت عليه الألسن..يصرخ من شدة الألم..
يقع من مقعده..
كان وحيدا يتصبب عرقا ولسانه يتدلى دبقا تعلوه شعيرات حادة وغريبة!)) ص:17
وتكتنز نصوص هذه المجموعة( أقواس ونوافذ) بتشكيلات من الضديات التي تصنع الدراما في القصص القصيرة جدا، ففي قصص شيمة تتضاد الثنائيات لتلتقي وتثير شهوة القراءة (16)، وبهذا يتحقق التماس والتداخل والتنافر بين الشيء وضده، فمن تداخل الليل والنهار يولد الفجر، الذي هو ليس ليلا ولانهارا (17) .
وحين يقول كوهين: إن (( الشعر يولد من المنافرة )) (18)، فان المنافرة لها القدرة على تحقيق نوع من الدراما المتطورة في (ق ق ج) أيضا، حتى يصل تأثيرها إلى صناعة الحبكة في النص الدرامي:
((طال الحبل:
جدتي تقول :حبله قصير !!
ربما كان كذلك..
تلك الخيوط الصغيرةة تجمعت..تكاثفت..تضافرت- وكونت حبلا متينا!
ذلك الغليظ التف حول عنق الحقيقة: فأرداها قتيلة!!)) ص:37
لقد حددت اللغة مسميات الأشياء فاتضح العالم للوعي البشري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى اللغة تحقق الذات والآخر بالحوار، مع الحداثة الشعرية التقت الجهتان، ودخلت اللغة في حوار مع الأشياء التي لها لغة لايفهمها إلا من يعرف فك الشفرات والرموز (19)، فيدخل هذا الإنسان في حوار مع العالم بكل مظاهره، وبذلك يتحقق الحوار بين الإنسان والوجود.
فاضافة الى (التضاد) و(المفارقة) تطرح القاصة شيمة الشمري العديد من الأسئلة في نصوصها، وهي ليست أسئلة ليقال إن النص مملوء بالأسئلة، ولكنها أسئلة مساءلة، لا تقف عند حدود الطرح، ولكنها تسائل وتراقب وتحاكم:
(( حاسد:
امتهن الاحتراف ..
وبدأ بقصف الهواة:
فاحترق !!)) ص:45
(( مردة:
خرج المارد من مصباحه العتيق..
وجد أمامه مجموعة من ( شباب) المدينة
يطلبون تحقيق أمنياتهم .وظيفة ومنزل صغير وزوجة!!
فأخذهم المارد بجولة(مصباحية)..
ومنذ ذلك الحين والأهالي في المدينة
يبحثون عن فتية ركبوا الخيال
واختفوا..!!)) ص:67
(( !!!:
نادوا طويلا: العمل..العمل لأبناء الوطن..
توافد أبناء الوطن الى لجان التصنيف والتوظيف..
لم يتفاهموا!
فاللجنة المسؤولة كانت بحاجة الى مترجم!!!)) ص:47
لقد حققت القاصة شيمة الشمري أهداف الـ (ق ق ج) من خلال شكلنة نصوص سردية تمتلك تقانات الكتابة القصصية المتطورة، بلغة ذات شعرية عالية، أسست مملكة أفعال سردية، بهوية الادهاش والصعق والايحاء والتلميح،كما إن نصوص هذه المجموعة مليئة بالتضادات والمفارقات والأسئلة والجدليات، نصوص مساءلة تطلقها القاصة من كل قصة أو مقطع أو جملة أو كلمة، ثورة شعرية بلغة القص السردي،ثورة خاصة تقوم في بنية النص أساسها التضاد كونه يشكل عنصر المخالفة، وهذه (( المخالفة تغدو فاعلية أساسية يتلقاها القارئ عبر كسر السياق والخروج عليه )) (20)والقاصة الشمري هنا تؤسس للغة مبتكرة، وهذا ليس معناه ابتكار دالات لغوية جديدة غير واردة في المعاجم، إلا أن الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدلالات - (21)
إن مجموعة القاصة شيمة الشمري ( أقواس ونوافذ)* تحتاج إلى قراءات متعددة، فهي من المجاميع الذكية التي تتمتع قاصتها بمخيلة مبدعة وثقافة واسعة ووعي كبير، إنها سهلة القراءة صعبة الكتابة، لكنها في العديد من جوانبها عصية على الفهم – رغم بساطتها - ما لم يتسلح (المتلقي/ الناقد) بثقافة سرد عالية فهو إزاء كتاب قصصي متألق ومبدع .
الهوامش والإحالات
1..انظر:كتابه: سياسة الشعر دراسات في الشعرية العربية المعاصرة:22
2.م.ن:22
3- بنية اللغة الشعرية، جون كوهين،ترجمة :محمد الوالي وزميله،، :57
4.م.ن:49
5- الاسلوبية والاسلوب،د- عبد السلام المسدي :167
6- شعرية القصة القصيرة جدا،جاسم خلف الياس:106
7- سياسة الشعر،ادونيس:49
8- محمد عطية محمود، مجلة أفكار،وزارة الثقافة الاردنية،ع306، تموز،2014،:15
9-المفارقة وصفاتها: د- سي، ميوبك، 16.
10- مفهوم المفارقة: م- كايل، 338.
11- المفارقة، 15.
12- علم النص: جوليا كرستيفا، 25.
13- شعرية القصة القصيرة جدا،:106
14- علم النص: جوليا كرستيفا، ت: فريدة زايد :110
15- في نظرية التلقي: جان ستاروبينسكي، 130.
16- شعر ادونيس، 49.
17- جدلية الانسنة والشيئية في قصة ( ابونا ): كمال عبدالرحمن، بحث مخطوط .
18 - بنية اللغة الشعرية: جون كوهن، 109 .
19- زمن الشعر: ادونيس، 166
20- جمالية الأسلوب والتلقي: د- موسى ربايعة، 129.
21- شعر ادونيس، البنية والدلالة: 24
المصادر والمراجع
1- الاسلوبية والاسلوب،د- عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب،ط2 ـ 1982
2- بنية اللغة الشعرية، جون كوهين،ترجمة :محمد الوالي وزميله،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء1986،
3- جدلية الانسنة والشيئية في قصة ( ابونا ): كمال عبدالرحمن، بحث مخطوط .
4- جمالية الأسلوب والتلقي: د- موسى ربايعة، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية، ط1، الاردن – 2000
5- زمن الشعر، أدونيس، دار العودة،بيروت، ط2، ـ 1972
6- سياسة الشعر دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، أدونيس، دار الآداب، بيروت،ط1 ـ1985
7- شعرية القصة القصيرة جدا،جاسم خلف الياس، دار نينوى،دمشق،2010
8- شعر ادونيس، البنية والدلالة، راوية يحياوي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1، 1980.
9- علم النص: جوليا كرستيفا، ت: فريدة زايد، دار توبقال للنشر – الدار ابيضاء، ط1، 1991.
10- في نظرية التلقي، جان استاروبنسكي وآخرون، ت: د- غسان السيد، دار الغد – دمشق، 2000.
11- المفارقة وصفاتها: د- سي ميوبك، ت: د- عبد الواحد لؤلؤة، دار المأمون – بغداد.
12- مفهوم المفارقة: لي - م - كايل، ت: د- أحمد العسال، 1966.
د. كمال عبد الرحمن - أكاديمي وناقد من العراق