يشهد العالم الإسلامي موجة من التجاذبات الفكرية الساخنة التي بلغت ذروتها بين طرفي نقيض منكر لثوبت الدين مستخف بأحكامه وتشريعاته ونيل من مؤسساته الشرعية ومنادات بإقصاء الشريعة بما يعد صورة من صور الإلحاد، وعلى الطرف الآخر خرجت لنا طوائف تنتسب للإسلام وتتصدر لإعلان تطبيق أحكامه وتشريعاته وفق تصورات وآراء إقصائية ترتب على الإغراق في دقائقها نبذ كل مخالف لرأي أو اجتهد فقهي في مسائل يسع فيها الخلاف، وتعدى ذلك إلى التبديع والتفسيق إلى أن انتهى بالتكفير والحكم بالردة على كل مخالف لما يعتنقونه من آراء وأفكار وتوجهات واجتهادات وأصبح لهؤلاء وأولئك مدارس وزعامات فكرية وأيديولوجية تغذي هذ الفكر وذاك بشقيه الإلحادي والخارجي التكفيري واستغل كل أصحاب فكر ما أتيح لهم من نوافذ إعلامية لنشر باطلهم والتسويق لأفكارهم وأطروحاتهم التي تأثر بها فئات محدودة من شباب الأمة وأفرز هذا المد الفكري المتنامي خروج فئات تتوق إلى تكفير المخالف واستباحة دمه والتلذذ بقتله، وتمكنوا من التأثير على شباب أغرار تمكنوا من الوصول إليهم والتأثير على فكرهم عبر وسائل شتى يأتي في مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي التي أزالت كل العوائق والحواجز والمحظورات، وقد تفطنت المملكة العربية السعودية لهذا الفكر الخارجي الدخيل فسعت لانتهاج المعالجة الفكرية بالتزامن مع المعالجة الأمنية لمن حصل منهم جرائم منشأها اعتناق أفكار دخيلة، فتم تأسيس مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية بتاريخ 12-10-1427هـ، كما تبنت وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والاشادة -مشكورة- حملة السكينة للحوار والتي تهدف لمعالجة الأفكار المتطرفة ونبذ الغلو ومحاربة الإرهاب ونشر الوسطية. وقد كان لهذه الجهود الرامية لمعالجة تلك الأفكار أثر طيب يحتاج إلى مزيد من المراجعة والتقويم لتحقيق الأهداف المنشودة. لكون واقع المعالجة الفكرية الحالي يظهر أن جزءً من الموقوفين على ذمة القضايا الفكرية الذين أخضعوا لبرامج المناصحة يعودون إلى سابق ما كانوا عليه من أفكار منحرفة بتطرف وغلو أشد، وفق ماتبين من عدد من القضايا والجرائم التي أعلنتها وزارة الداخلية وهذا ما يدعو إلى إعادة النظر في تقييم أعمال لجان المناصحة وتطويرها بما يحقق الأهداف الرائدة التي أسست من أجلها وأتصور أن تبني الجامعات والمؤسسات المعنية لمشروع وطني يهدف إلى حماية أفكار الناشئة وتحصينهم من الأفكار ولتوجهات المنحرفة والضالة بأساليب مقبولة سيسهم في الحد من انتشار وتنامي كل فكر ومنهج دخيل على مجتمعنا الذي اكتوى مؤخراً بنار التصنيف والإقصاء والتبديع والتفسيق وانتهى إلى التكفير والإلحاد واستحلال الدماء التي حرمها الله عز وجل وعظم شأنها بقوله: {ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} فالنفس التي حرم الله تعالى هي نفس المسلم ونفس الكافر المعاهد والذمي والمستأمن كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} وكما قال عليه الصلاة والسلام: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة» واتصور أن مشروعًا وطنياً كهذا سيسهم في معالجة هذه الظاهرة الفكرية المؤرقة وسيحد من تناميها.
د. خالد بن هدوب المهيدب - الأستاذ المشارك بجامعة سلمان بن عبدالعزيز