كشفت أحداث جريدة (شارلي ايبدو) الفرنسية الأخيرة أن تنظيم القاعدة هو التحدي الحقيقي للعالم الغربي رغم خفوت نجمه في الآونة الأخيرة وسطوع نجم الوليد المهجن (داعش)، فالأول ومنذ أحداث الربيع العربي التي سادت تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا وبعد أن تحول ربيع بعضها إلى شتاء قارص من العنف كاد أن ينسى ليظهر جحيم تنظيم ما يسمى (داعش).
الأخير أخذ بكل مساحات الاهتمام وشكل عقبة كبيرة بعد أن اجتاح مدينة الموصل العراقية في العاشر من حزيران عام 2014 وهدد قيام الديمقراطية الوليدة في هذا البلد، ليدخل العالم مرحلة جديدة من الصراع مع هذا التنظيم متخذًا تدابير وصفت بأنها الأولى من حيث مواجهة الجماعات المتطرفة بدءًا من الدعم السياسي والفني واللوجستي للحكومة العراقية انتهاء بتشكيل الحلف الدولي لمواجهته، حتى كادت تلك التدابير أن تتناسى تنظيم القاعدة وكأنه تحول إلى حمل وديع أو أنه أعطى ضمانًا للدول بأنه قد دخل مرحلة (التقاعد الوظيفي) وهو خطأ قاتل.
لقد أثبتت أحداث جريدة (شارلي ايبدو) في فرنسا بأن تنظيم القاعدة ما زال هو الأكثر خطورة في تنفيذ عملياته وخصوصًا في العمق الأوروبي والغربي، في الوقت ذاته تشير التحليلات الأولية إلى أن تنظيم داعش ومن خلال مساحة تحركه في دول المنطقة العربية بأنه تنظيم قائم في أغلب مفاصله على الحرس القديم للأنظمة العسكرية المنهارة في الدول العربية، غير أنه يتخذ شكلاً فكريًا متطرفًا له ليرتدي الثوب الديني لمعرفته بعدم مقبوليته من أغلب شرائح المجتمع خصوصًا التي كان يتربع فيها على السلطة فهو لا يستطيع الجهر بشعاراته السابقة من أفكار كان يتبناها، كون تلك الشعارات لا تجمع له العدد ولا الحشد الطائفي المطلوب لاحتضانه ولا لدعمه.
وعلى هذا الأساس فإن أغلب قيادات هذا التنظيم سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا هم من رجالات الاستخبارات السابقة أو القيادات السياسية للأحزاب الحاكمة في هذه البلدان ومنها على سبيل المثال حركة (النقشبندية) التي يقودها في العراق نائب الرئيس العراقي السابق عزت ابراهيم الدوري، وبالرغم من وجود الكثير من المقاتلين الذين هاجروا للانضمام لهذا التنظيم لكنهم غير مطلعين على فكر أغلب قياداته ولا تاريخهم الحقيقي، بل إن الشعارات الفكرية المتطرفة والشحن الطائفي في المنطقة أسدل الستار على حقيقة ما يصبو إليه.
أما العلاقات التي جرى الحديث عنها بين «داعش» و»القاعدة» فهي على ما يبدو وصلت إلى طريق مسدود في فبراير - شباط عام 2014، حيث إنه وبعد صراع على السلطة استمر لمدة ثمانية أشهر تقريبًا، قطع تنظيم القاعدة كل العلاقات مع جماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام، ردًا على وحشيتها أو ما وصف بـ»الاستعصاء سيئ السمعة، فدولة الخلافة التي تدعو لها القاعدة تختلف عن الدولة التي يدعو إليها تنظيم (داعش) من حيث المتبنيات الفكرية والأيدلوجية والطرق والمساحات التي يعملان عليها، فالأخير يؤكد بأن تلك الدولة تقام على المناطق التي تشغلها الطائفة السنية أولاً لدفع المظلومية عنها (حسب وجهة نظر التنظيم) ومن ثم الانطلاق بعد تركيزها إلى مناطق أخرى ولعل أحداث الموصل العراقية تشير وبوضوح إلى ذلك الفهم، فيما ترى القاعدة إمكانية إقامة تلك الدولة في أي منطقة تسيطر عليها.
على ضوء ما تقدم فإن دور وفاعلية تنظيم (داعش) وعلى ما يبدو سيبقى في إطار إحداث الفوضى، أما عن طريق العنف وإثارة المشكلات المتتالية للحكومات الحالية في الدول التي خسروا فيها رجالات الحرس القديم سلطتهم ومحاولة منه بالحصول على إحداث تغيير أو الوصول إلى وضع قد يضع تلك الحكومات في وضع الإجبار للتفاوض معهم أو القبول بهم كأمر واقع تحت ذرائع ومسميات معينة.
في ظل هذه الأجواء يبقى تنظيم (داعش) محلي النشاط ولن يكتب له التحول إلى تنظيم عالمي حتى لو اكتسب مساحة واسعة من الاهتمام الدولي أو كونه ذا قساوة بالغة في التنكيل بضحاياه وقياداته في حال شكه بولائهم، أما إذا رغب هذا التنظيم أن يتحول عالميًا فإنه قد يكون جزءًا من تنظيم القاعدة أو يلتحق به وإعلان البيعة له وعندها سنعود إلى تنظيم قاعدة محدث، وهو أمر مستبعد على أقل تقدير في الوقت الحالي، كونه حاول أن يضع نفسه كمنافس له أو بديل عنه حتى دخل معه في مشاحنات كثيرة وتصفيات جسدية لبعض المرتبطين معه خصوصًا في سوريا.
ورب قائل يقول: إن ما أقدم عليه تنظيم القاعدة في فرنسا هو محاولة لتخفيف الضغط الحاصل على تنظيم (داعش) في العراق وسوريا وفتح جبهات أخرى للدول الغربية المنشغلة بتوجيه ضربات جوية مركزة على الأخير في معركة تحرير المدن التي اجتاحها في العراق بعد حزيران 2014 ومنها فرنسا التي أبدت تحمسًا كبيرًا في هذا الحلف، وهنا يمكن رد هذا الاحتمال بوجهين:
الأول: إن تنظيم القاعدة منذ سيطرة تنظيم داعش على بعض المدن العراقية وإعلان الحلف الدولي لمواجهته وبدء المعركة معه على الأرض، لم يكن لتنظيم القاعدة أي موقف يذكر لا من حيث ترحيبه بسيطرة (داعش) على تلك المدن ولا إبداء التعاطف أو التعاون معه لمواجهة هذا الحلف وهو عادة ما تبديه القاعدة مع الفصائل التي تتحالف معها أو التي تتبعها وتشابهها في الأفكار وبشكل علني.
الثاني: إن القاعدة أعلنت وحسب بعض مواقعها تبنيها لعملية (شارلي ايبدو) وأرجعت أسبابها عازية ذلك بتجاوز تلك الصحيفة على شخصية الرسول الأكرم برسومها الكاريكاتيرية، ولم تشر لا من بعيد ولا من قريب إلى أي شيء بخصوص الحرب التي تشنها دول الغرب ومنها فرنسا على تنظيم ما يسمى (داعش).
من جانب آخر فقد أثبتت تلك الأحداث ضعف التأهب الأوروبي والغربي ضد الجماعات المتطرفة ونشاطاتها، من حيث الجهوزية الاستخباراتية والمواجهة السريعة، وهو ينبىء بعدم قراءة تلك الدول لأولويات الجماعات المتطرفة من حيث خطورتها وإمكانية توريطها في حرب طويلة الأمد من خلال إيجاد جماعات متطرفة مبعثرة في العالم بشكل مكثف في مناطق متعددة في العالم.
وبعد (ايبدو) سيعود العالم ليضع نصب عينيه تنظيم القاعدة كتهديد حقيقي وقائم وممتلك لزمام المبادرة في الكثير من العمليات الإرهابية في العمق الغربي والأوروبي، وهنا يجب أن تدرك الدول الأوروبية والغربية ضرورة إعادة ترتيب أوراقها الأمنية وخططها الإستراتيجية في مكافحة الإرهاب، وهذا بدوره يفرض عدة إجراءات منها:
1 - أن تحسم تلك الدول موقفها بشأن من يمول ويشجع ويروج ويحرض ويأوي العناصر المتطرفة وإن تكون واضحة في ذلك سواء كانت تلك الجهات دولاً أو أحزابًا أو جهات دينية أو سياسية.
2 - عدم التسويف في الحرب ضد تنظيم ما يسمى (داعش) فإن في ذلك استنزافا للوقت واستغلالاً للترويج للكراهية والتطرف، مع إجراء تغيير سياسي أو حل ملائم في هذه البلدان.
3 - فرض عقوبات قاسية على الدول والجهات والشخصيات التي لديها تعاملات تجارية مع هذه التنظيمات، سواء بشراء النفط منها أو بيع السلاح لها وان يكون ذلك بشفافية عالية.
4 - مواجهة تنظيم القاعدة استخباراتيًا وأيدلوجيًا وتجفيف منابع تمويله البشرية والمادية ووضع الأولويات لمواجهته وجعله الهدف الأول في المعركة الدولية كونه الشجرة التي تتفرع منها أغلب تنظيمات التطرف.
ولذلك فإن إستراتيجية مشاغلة الأطراف وترك المحور والمرتكز أو العكس سيكون له تداعيات خطيرة على العالم بأسره، وعليه فلا بد من تلاحم عالمي في مواجهة الفكر المتطرف وإنهائه بشكل جدي وعدم السماح له بالتوالد من خلال الإجهاز على متشابهاته المنتشرة وترك سياسة التفرج، والعودة إلى ضرب معاقله وأفكاره سريعًا.