الدولة - أي دولة -، ذلك الكيان الاجتماعي السياسي، لهو ظاهرة معقدة التراكيب والأنماط، ويتجلى ذلك التعقيد والتداخل المركّب في ظواهر متعددة وأشكال مختلفة تختص بالشأن العام ومنها الاجتماعي والثقافي والسياسي ونحوه وبالضرورة الشأن الاقتصادي المالي.. وفي الخاطر ما تم تداوله عن ميزانية العام الجديد وهي بكل تأكيد ميزانية طموحة تتجلى مكامن قوتها في أنها استطاعت أن تقفز فوق عثرات النظام الاقتصادي العالمي وتوعكاته المتكررة، وذلك بإصرارٍ على الصرف على التنمية ومكوناتها المستقبلية والآنية غير عابئة بما تحمله هذه التوجهات النبيلة من أعباء جسام ومسؤوليات هائلة مترتبة على تلك الالتزامات، ولكننا واستشرافاً لبُشريات هذه الميزانية الكريمة واستصحاباً لمهام مواكبة الالتزام الاجتماعي بقضايا متطلبات الوعي العام المدرك لأهمية المشاركة في بناء نهضتنا الاجتماعية، سنحاول عرض بعض قضايا الأموال العامة من وجهة نظر التنظيم القانوني العام، وذلك لبيان أهمية هذا الركن من أركان الدولة الحديثة، وصولاً لاستخدامٍ أمثل ومنفعة أشمل للأموال العامة مكمن الرفاهية والتحضر.
إن تعبير «المال» يُطلق لغة على ما يمتلكه الإنسان من كل شيء، أما في المعنى الاصطلاحي فيقصد به الحق ذو القيمة المادية وبذلك يضم تحت مظلته كل ما له قيمة مادية أو منفعة أو عيون، بل كذلك يمكن إدراج ما يترتب على الملكية الفكرية من حقوق مادية مواكبة للحقوق الأدبية.. ونرى أن الفقه القانوني قد نحا نحواً من هذا التعريف العام فأوردته القوانين العربية المختلفة في نصوص عرّفته بأنه كل عين أو حق له قيمة مادية في التعامل.
أما الفقه الإسلامي فيستدل بمصطلح «المال» على مدلول ينصرف إلى الشيء المتقوّم الذي يكون موضوعاً للحق ومحلاً للتعامل والذي ينطبق عليه حق الملكية، وقد ورد عن الإمام الشافعي:((لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها ويلزم متلفه)) (الأشباه والنظائر للسيوطي جلال الدين، ص 197)، ومن خصائص المال أن يكون قابلاً للادخار إلى وقت الحاجة وبذلك يكون مفهوم المال مرتبطاً بأوجه المنفعة وحق الاستغلال، وكذلك يشترط في المال المتقوّم أن يُباح الانتفاع به ويترتب على ذلك خروج الخمر والخنزير وما شابههما من مفهوم المال عند المسلمين. ومن خصائص المال أيضاً وشروطه أن يكون المال المتقوّم محرزاً بمعنى أن يكون إمرة يد مالك المال، وبذلك فالهواء وأشعة الشمس لا تُعد مالاً ما لم تحرز عن سواها.
وولوجاً لموضوعنا الرئيس، فإن الأموال تُقسَّم من حيث عائديتها ومالكها وسبل تخصيصها إلى أموال أو حقوق مملوكة للدولة وتُسمى بالأموال العامة، أما القسم الآخر فهو الأموال والحقوق والممتلكات التي تخص الأفراد أو الهيئات وهي ذات نفع خاص يعود على المالك وتُسمى بالأموال الخاصة.. وهذا النوع الأخير تتطابق وجهات النظر الفقهية والشرعية حول وسائل امتلاكه ووسائل تخصيصه وكيفية جباية المنفعة منه أخذاً بالاعتبار بتأصيل الشارع الإسلامي أن ملكية الأموال هي لله عز وجل، والعباد من أولي الأمر وغيرهم ما هم إلا قائمون عليها لتأدية أغراض بعينها ويجب حسن التعامل معها بما خصصه الشرع من قيود وإطلاق لتعود بالنفع الحلال الطيب على الفرد والجماعة.
أما الأموال العامة في الدولة الرأسمالية فتنقسم إلى قسمين:
الأول يُسمى بالأموال العامة وهي الأموال المخصصة للمنفعة العامة بالمعنى التقليدي، والثاني يُسمى بالأموال الخاصة وهي تلك التي يقتضي الغرض منها الاستثمار المالي وإنماء موارد الدولة، ويتمتع القسم الأول بنظام قانوني خاص يكفل له قدراً كبيراً من الحماية، فلا يجوز التصرف بتلك الأموال أو الحجز عليها أو اكتسابها بالتقادم بينما يخضع القسم الثاني لنفس النظام القانوني الذي تخضع له أموال الأفراد.. أما الدولة الاشتراكية فقد حرصت على إيجاد نظام قانوني موحد لجميع أموال الإدارة دون تمييز بينها، أي أن المال العام نوعان من الأموال هي: الأموال العامة والأموال الخاصة.
إن للمال العام أهمية تنبع من كونه مالاً متعلقاً بحقوق جميع المواطنين بالدولة ولذلك ارتباط مباشر بمصلحتهم وقضاء حوائجهم، ولذا فإن المشرع قد أفرد للمال العام نظاماً قانونياً خاصاً به ضرب سياجاً محكماً من الفعالية العالية في محاولة للإحاطة بأوجه النشاط المختلفة للدولة والمهام الملقاة على عاتقها، ولكن نظراً لتعدد هذه الأنشطة وتغلغلها المباشر في اهتمامات ومصالح ومنافع عموم السكان، فإن هناك كثيراً من المعوقات تجابه الضبط القانوني لهذه الأموال وأهمها الفساد والإتلاف إضافة لضعف الوعي وتغييب الوازع الديني مما يؤدي إلى تبديد الأموال العامة وإعاقة تصويبها نحو مرامي المنفعة العامة السامية.
ينبغي العلم أن مصادر ومنابع المال العام المملوك للدولة لهي عصية على الحصر وهي تتأسس على النظم التي تنبني عليها طبيعة ملكية الدولة لهذه الأموال، فالدولة تستصدر ما تراه متماشياً ومتناسباً مع أنظمة وتشريعات يستنبط منها القواعد الضابطة للملكية العامة، ومن ذلك ما تراه الدولة من تخصيص أو تأمين لوسائل الإنتاج، أو ربما يستهدف إنشاء كيانات بملكية مختلطة أو ملكية تعاونية، وعليه فالأموال العامة التي تقوم الإدارات العامة على إدارتها والتصرف فيها تكون الأرض أهم أعمدتها بما تختصه من خيرات من معادن وثروات أو ما على سطحها من نبات أو مداخيل البيع أو التأجير أو ثروات حيوانية أو مائية من أنهار وبحيرات ومما تحتضنه من ثروات حية أو ثروات معدنية، زد على ذلك الضرائب والرسوم والجبايات بأنواعها عيناً أو ديناً أو منفعة هي كذلك من مصادر المال العام.. ويشكّل النظام التجاري باختلاف أنماطه والاستثمار بمختلف توجهاته رافداً مهماً من روافد المال العام.. ومن أهم مصادر المال العام كذلك ممتلكات الدولة العقارية والملكية المنقولة سواءً أكانت مملوكة للدولة مباشرة أو مخصصة لكيان اعتباري عام موجه نحو المنفعة العامة تأسيساً على مرسوم أو قرار من جهة الاختصاص، يُضاف إلى ذلك الأموال المنزوعة من الأفراد والمخصصة للمنفعة العامة وفقاً للنظام المعمول به، والمعنى الضيق لهذا المفهوم هو أملاك الدولة المخصصة للنفع العام، ومنها الطرق العامة ومباني الوزارات والمستشفيات والمطارات والحدائق العامة، وهذا النوع من الأموال هي أموال مخصصة للمنفعة العامة، وهي إما أن تكون من أموال الدولة الخاصة أو مملوكة للأشخاص المعنوية الأخرى، يتم تخصيصها للمنفعة العامة عن طريق إعدادها وتجهيزها لأداء مهامها دون إصدار نظام لتحديد هذا التخصيص، أو بالعكس إن رأت الدولة غير ذلك.